تفصلنا خمسة أسابيع فقط قبل أن يتم تنصيب الرئيس دونالد ترامب سيدًا للبيت الأبيض، أو أقوى رجل في العالم يملك ترسانة أسلحة ضخمة وجيشًا مدربًا موجودًا تقريبًا في معظم أركان الكرة الأرضية، وقد انقسم المحللون، خاصة العرب، في توقعهم لما سوف يفعله أو لا يفعله الرئيس القادم إلى السلطة؛ بعض من مدرسة التهوين يقول إن الولايات المتحدة بلاد ضخمة، تحكمها مؤسسات، وفي النهاية سوف ينصاع الرئيس الجديد لتلك المؤسسات ويعمل بمشورتها، التي تُعلي مصالح الأمة على رغبات أو نزق الفرد! والبعض الآخر يرى أن الرئيس الأميركي له من الصلاحيات ما يفوق صلاحيات بعض القادة والزعماء في بعض الملفات، وإن أحسن توظيف الرأي العام في بلاده واستطاع أن يجنده باتجاه مناطق فهمه وقناعاته في بعض الأمور، يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة، وليس أقلها إعلان الحرب على الآخر، الحرب الحقيقية أو الاقتصادية أو الرقمية! صحيح أن «أميركا كبيرة وعصية على السقوط» ولكن في المقابل ما هو صحيح «أنها قد تكون كبيرة عصية على أن تنقذ» من شر أهواء قياداتها، خاصة عندما يصاب رئيسها ومؤسساتها بهوس القدرة غير المُعطلة، التي تتصل بتصورات «العظمة»! في عالم لم يعد يقبل هيمنة العظمة! لقد أرسل السيد دونالد ترامب حتى الآن ومن خلال تصريحاته وجملة تعييناته في الوظائف الرسمية الحاكمة لإدارته الجديدة.. أرسل موجة من الصدمات للأميركيين في الداخل، خاصة في الملف الاقتصادي، ولغيرهم في الخارج في العلاقات الدولية.. جل تلك الصدمة تتمركز في هدف «إنقاذ الاقتصاد الأميركي من الركود، وعودة أميركا عظيمة»! تلك شعارات يسر بها البعض، وتجلب حماس كثيرين في الداخل الأميركي يشكلون في الغالب قدرة رافعة للإدارة الأميركية القادمة لأن تفعل ما يحلو لها في الجانبين الاقتصادي والخارجي، إلا أن جل ما تريد فعله مما ظهر حتى الآن هو من أجل «دخل أفضل واقتصاد أقوى»، ويعتمد المشروع على ضبابية شديدة، وهو معاكس للرشادة الاقتصادية، وبعيد عن المبادئ التي قامت عليها فلسفة الغرب الحديثة أو حتى المبادئ الإنسانية الكبرى، وقد تتناسى الإدارة القادمة الحكمة الصينية القديمة التي تقول «كل ما له سعر، فهو رخيص»، فإن قُيمت خطوات السياسة بالأسعار، نصبح نحن جميعًا أمام تحول تاريخي، يضرب بقيم كبرى عرض الحائط، ويقيم مزادًا في سوق تكتنفها الفوضى!
ليس من شأننا نقاش ما سوف يقدمه أو لا يقدمه الرئيس القادم للبيت الأبيض من مسرات أو نكبات للشعب الأميركي في الملف الاقتصادي، وهو يشي بتناقض واضح، فذلك من خصوصيات ذاك الشعب، خيرًا هو أو شرًا، ولكن من الأسلم أن ننظر إلى المقدمات لنتوقع النتائج. ففي سبيل عودة الشركات الأميركية من الصين إلى أرض الوطن، وتقليل منافسة الأخيرة في الاقتصاد العالمي، بدأ السيد ترامب باستفزاز الصين، التي تمتد مصالحها إلى القارات الأربع، يريد أن يكون للولايات المتحدة سياسة «صينية برأسين» الوطنية والشعبية، في توجه واضح للضغط الاقتصادي بوسائل سياسية، فوق ذلك فإن العلاقة بالروس التي يُلوح بها الرئيس الجديد يمكن أن تسعى إلى تقاسم المصالح، إلا أنها في النهاية سوف تصب في صالح روسيا الاتحادية، التي تؤسس اليوم عالمًا للتوازن الدولي من خلال تفعيل «هولوكوست» في سوريا مشترك مع النظامين الإيراني وتوابعه والسوري لنشهد أكبر تطهير عرقي ومذهبي شوهد في الشرق الأوسط منذ قرون، والقيام بمذابح ضد شعب أعزل في سوريا غير مسبوقة حتى في أحلك أيام الاضطهاد في سنوات الحرب العالمية الثانية! في الوقت الذي يشتبه بعض مجالات الاقتصاد الروسي في أنه قائم على جماعات لها علاقة بالمافيا يمكن أن يؤثر في السلوك والتوجه على الاقتصاد الأميركي، الذي اتسم في جل سنواته السابقة بالعدالة النسبية وتكافؤ الفرص، قد يتحول إلى اقتصاد فساد غير معروف حتى الساعة في الفضاء الأميركي الديمقراطي. لم يصح في تاريخ العالم المعروف أن يكون الرضا الذاتي للدول هو فقط نتيجة الرضا الاقتصادي، هو أكبر من ذلك بكثير، فالمبادئ لها مكان الصدارة، وهي التي تشيع الأمل وتعلي القيم الإيجابية في الجمهور العام، ولم ينتصر العالم الغربي في حربين عالميتين فقط لأنه كان أقوى اقتصاديًا وعسكريًا، بل لأنه كان أقوى في المبادئ الإنسانية العامة، فقد انتصرت الديمقراطية الغربية في العالم لأنها لا تميز بين الألوان، وخلت من التعصب العرقي والانحياز الفئوي وازدهرت فيها الحريات وحقوق الإنسان، ذلك أسس للنهضة الإنسانية الحديثة. حتى الآن كانت السياسة الخارجية الأميركية يمكن التكهن بها والتوقع لمسارها نسبيًا على الأقل، لأنها تلتزم بمبادئ عقلانية معروفة، الخطورة التي تواجه العالم، أن يرى سياسة لا يمكن التكهن بمساراتها، وسياسة دافعها الربح المالي دون النظر إلى الخسارة المعنوية، فنحن إذن ندخل منزلقًا خطيرًا تحكمه انتهازية مادية بادية، فهناك فرق بين «الحياة الرغدة» الاقتصادية التي تبشر بها الإدارة القادمة، وبين «الحياة الكريمة» المحتضنة للمبادئ الإنسانية! فرق شاسع بين «الرغدة» و«الكريمة»!
الملفات التي سوف تواجه الإدارة القادمة في الشرق الأوسط ليست سهلة، فإن توجهت إلى جلب المصالح المادية فقط، أصبحت متذبذبة في بازار من يدفع أكثر، وتتحول العضلات الأميركية في هذا الملف إلى عضلات «استرزاق»، وإن حدث فهو الدليل الأكبر على بداية التدهور. وإن غلبت الإدارة الجديدة تحقيق مبادئ العدل وحقوق الشعوب، فهي مصادمة لقوى الهيمنة بالضرورة، ومنها التدخل الروسي والإيراني والميليشيات التابعة لهما في فضائنا العربي، والحياد هنا ليس أخف الضررين، كما فعلت الإدارة السابقة، بل أفدح الضررين! كتب محقا قبل أشهر نائب الرئيس المنتهية ولايته السيد جو بايدن، أن الإدارة الأميركية القادمة سوف ترث أعقد الملفات غير المسبوقة في التاريخ الحديث في فضاء السياسة الخارجية، وسوف يعتمد استقرار السلام العالمي على قدرتها في المشي في هذه الأرض الملغومة. تلك في العموم نظرة صحيحة، إلا أن مهارة نزع الألغام لم تظهر حتى الآن في تباشير الإدارة الأميركية الجديدة! العالم يحبس أنفاسه بانتظار أن يجلس الرئيس الأميركي الجديد في مكتبه البيضاوي بالبيت الأبيض!
آخر الكلام:
تحية للدولة الخليجية التي ألغت احتفالات أعيادها الوطنية تضامنًا مع الحسرة على تلك المجزرة التي ارتكبها الروس والإيرانيون في حلب. قناعتي أن الشعوب، وإن تراجعت، لا تهزم، ذلك هو درس التاريخ!.
*الشرق الأوسط