مساء السبت الماضي، ٨ أكتوبر، تعرضت صالة عزاء في صنعاء لقصف صاروخي أودى بحياة العشرات، وسقط مئات الجرحى، قبل ذلك بأسبوع سقطت قذائف صاروخية على سوق شعبية في تعز وسقط العشرات، هذه الصورة توشك أن تكون يومية في اليمن، لا توجد أرقام مؤكدة عن عدد قتلى الحرب الدائرة في اليمن. ثمة شيء مؤكد، أكثر من أي شيء؛ فقد أصبح اليمن بأكمله جثة هامدة، وحدث أنه أصبح بلداً لا يذهب إليه أحد. صنفته الحكومة الألمانية قبل أيام بوصفه واحداً من البلدان الأكثر خطورة في العالم.
الحوثيون أقلية داخل أقلية في اليمن، وهي الحقيقة التي أشعلت الحرب، حدثت الحرب بعد اعتراض عبد الملك الحوثي على أكثر من مادة في مسودة الدستور، تحديداً تلك المواد المتعلقة بإعادة بناء النظام السياسي والإداري، عملياً كانت تلك المواد لتعني سحب القوة من المركز الواقع تحت هيمنة الطائفة الزيدية، يمثل الحوثي مرجعها، كما كانت مخططة لتؤدي إلى إعادة بناء السلطة أفقياً. لا وجود اجتماعي أو إثني، أو حتى ثقافي، لجماعة الحوثي خارج حزام القبائل المحيطة بصنعاء، حيث المساحة الأكبر من الأرض والتجمع الأوسع من السكان، إن أي ديموقراطية بمقدورها القضاء عليه.
تلك الحقيقة الاجتماعية دفعته إلى خوض الحرب، مستعيناً بشبكة صالح، للوصول إلى أبعد الأماكن، كانت الحرب هي المشروع الموازي للدستور، فقد اعتقد الحوثي أنها خياره الأخير إذا ما أراد أن يعيش ملكاً. سبيل الدستور الاتحادي سيؤدي، بالضرورة، إلى يمن موزع بين كل الناس، عبر هندسة قانونية وإجرائية ستحول دون نشوء قوة مهيمنة ووحيدة.
وقف عبد الملك الحوثي أمام ذلك التحدي الوجودي، درس خياره، ثم كان إن الحرب هي الفعل الوحيد الممكن. بالتوازي كانت تلك أيضاً هي الأزمة الوجودية التي أحاطت بصالح، وهنا التقى الرجلان ودبر كل منهما فكرة الإطاحة بالآخر ما إن تضع الحرب أوزارها، كما تفيد معلومات موثوقة.
في الخطاب الشعبوي الذي كرسته وسائل إعلام الحوثي إبان حصار صنعاء حضرت فكرة "الأقاليم" كمرادف موضوعي للخيانة الوطنية، وكانت هي الثيمة المركزية التي استند عليها الخطاب الشعبوي أولاً، ثم الجهادي ثانياً. مع مرور الأيام، شهران بين سقوط عمران وصنعاء، ارتفع الخطاب الشعبوي الحوثي حد اعتبار رئيس الجمهورية "الحاصل على 6.8 مليون صوت" زعيماً لتنظيم داعش في اليمن. بعد ذلك ستصير محافظات بأكملها، مثل تعز وعدن، محافظات لتنظيم الدولة وفقاً لخطاب الحوثي.
تمثل العاصمة سوق القبائل، وهي محاطة بها من كل جانب، أما مؤسسات الدولة فليست سوى منافذ بسيطة داخل ذلك السوق، وبالضرورة فهي تقع كلياً تحت هيمنة "قبائل السوق". مع الانتهاء من كتابة مسودة الدستور خاطب الحوثي قبائل صنعاء، وهي تلتقي معه مذهبياً، مشيراً إلى خطورة سحب السلطة من سوقهم. في لقاءاتهم برجال القبائل كان الحوثيون يتحدثون عن فقر قادم، وعزلة، وضياع للمصالح. حضرت كلمة "الأقاليم" باعتبارها حجر الجسر الذي سيرتكز عليه الخطاب الشعبوي الحوثي، كما حضرت تلك الثيمة بوصفها مردافاً لعملية إفقار واسعة ينتوي "غير الزيود" إلحاقها بالقبائل الزيدية.
في تلفزيونات الحوثي كان رجال القبائل يظهرون مدججين بالسلاح متوعدين كل من يفكر بـ"الأقلمة" في الحرب حتى آخر قطرة دم. صار رفض الأقاليم موازياً لفكرة الحفاظ على الوحدة، وصارت فكرة الأقليم نفسها إما انفصالاً، يستوجب الجهاد بالدم، أو إرهاباً. لم تكن مسودة الدستور قد نشرت في أي وسيلة إعلامية، وإن حدث فإنها لن تصل إلى القبائل. ما من صحيفة في اليمن تزعم أن لها منافذَ بيع لدى حزام القبائل المحيطة بالعاصمة، وهو حزام يمتد من صعدة في الشمال إلى ذمار على تخوم المناطق المتوسطة، مناطق جبلية مكتظة بالسكان، ولا يدخل إليها موزعو الجرائد.
فر هادي إلى عدن في عمل أسطوري لا يُصَدق، وبالرغم من الرواية التي تقول إن هروبه مثل ضربة قاسية لمشروع الحوثي إلا أن الأخير بدا أول المستفيدين من ذلك. فقد اتجه إلى قبائله، عبر خطابات متصاعدة توجت بخطاب التعبئة العامة، طالباً منهم سرعة إنقاذ الوحدة اليمنية، كالعادة حضرت ثيمات الفقر والعزلة وفقدان المصالح في مقدمة الخطاب الشعبوي الجديد.
وإذ لم يحقق ذلك الخطاب الاستجابة المطلوبة، بسبب من الغموض الرهيب الذي كان حاكماً للموقف، حدث تفجيران كبيران في مسجدين في صنعاء، كان بالمقدور الإشارة إلى الخاسرين، ولم يكن من الصعب توقع الرابح الأكبر. لم تمض سوى ساعات قليلة، ثم أيام معدودة، حتى كان الحوثي قد ارتاح إلى نتائج التفجيرين كما بدا من خطاباته.
الحشود التي أرسلها إلى عدن، مزودة بوحدات من الجيش ذي الطبيعة الطائفية، رافقها خطاب عن حماية الوحدة اليمنية، العدو هذه المرة لم يكن انفصاليو الجنوب بل الرئيس هادي نفسه. استعان هادي، كما يقول الخطاب الحوثي، بالإرهابيين. لم تكن ثيمة الأقاليم قد فقدت وهجها، كما أضيفت إليها ثيمة الإرهاب.
كانت التقديرات المبدئية لحركة الحوثيين، وهم يقتربون من محافظة عمران، تقول إنهم يسعون إلى خلق نموذج لحزب الله في اليمن، إلى ذلك كان كُتاب صحيفة الشرق الأوسط يذهبون، كما كان المزاج السياسي السعودي مستعداً لتقبل وضعاً كهذا والتعامل معه على نحو إيجابي.
غير أن مسألة الدستور، التي لم تشر إلى أي شكل من أشكال التوافقات، غيرت فيما يبدو خط سير الحوثي، فالمسودة الدستورية لم تكن تسعى وحسب إلى تفريغ المركز من السلطة المطلقة وإعادة فرشها أفقياً. بل أبعد من ذلك، فقد كانت مسودة تعترف بالتنوع ولكنها تتجاوزه إلى اعتبار كل التنوع ثراء داخل النوع الواحد/ الوطن، وتجعل من المواطن وحدة انتخابية مستقلة عن أي انتماء غير جمهوري، المسودة التي أسقطها الحوثيون بالحرب ألقت بالكرة إلى قاعة النظام الجمهوري، وهو نظام تقول مبادئه الأساسية إنه يقوم بالأساس على النظام الحزبي.
خروج عبد الملك الحوثي من مخبئه وتوجهه إلى إنشاء حزب سياسي سيقضي على طموحاته الدينية في الحكم والهيمنة، كما يعتقد، فقد جربت سلالته الدينية خوض السياسة عبر حزبين سياسيين في تسعينات القرن الماضي لكنهما بقيا حزبين بحجم صحيفة واحدة. اعتقد الحوثي أن تلك التجربة غير قابلة للتكرار، على وجه الخصوص بما توفر من شروط دولية جديدة ومريحة مع رياح الربيع العربي.
كانت الحرب هي البديل الذي قدمه عبد الملك الحوثي عوضاً عن الدستور. ومع مرور عامين على تلك الحرب، منذ سقوط عمران، ها هو يتشبث كلياً، في حديثه إلى الوسطاء الدوليين، بالقول إن جماعته تمثل أقلية سياسية ودينية وأن أي تسوية سياسية لا بد وأن تراعي تلك الحقيقة.
قبل عامين من الآن كان يقول أنه يخوض حروبه نيابة عن الشعب اليمني لا عن أقلية سلالية، ولم يكن يقبل مجرد التشكيك في ذلك. وإذا كان، كما يرى عياناً، قد فشل في إسقاط الدستور الجمهوري بالحرب فإنه يسعى عبر التفاوض إلى استبعاد المسودة الأساسية من الدستور وإعادة هندسته بحيث تعود القوة كلها إلى العاصمة صنعاء، على أن تعود صنعاء كما كانت سابقاً "سوقاً للقبائل" وأن يكون هو شيخ شيوخ القبائل، ومرجعها الأخلاقي والديني.
* عن مدونات الجزيرة