لم تحمل الأرض اليمانية على ظهرها شاعرا وثائرا ومحاربا مِقداما كما حملت المناضل الجسور الفقيد عثمان أبو ماهر المخلافي، ذلك الشاعر والمحارب الإستثناء بين أقرانه، الذي حمل صفات فريدة ومزايا عديدة مكنته من كتابة سِفر تاريخه برصاص بندقيته السبتمبرية وعرق جبينه الهامي في سُوح المعارك الوطنية، ودوّنه شعرا خالدا على جدار الذاكرة الوطنية الذي سيظل أثره باقٍ تردده الأجيال اليمانية نغماً خالداً إلى أبد الدهر.
الحديث عن شاعر وثائر وسبتمبري أصيل كالفقيد عثمان أبو ماهر لاشك أنه ذو لوعةٍ وشجون في الذكرى الـ 54 لثورة 26 من سبتمبر الخالدة إذ كان الفقيد أحد محاربيها الشجعان منذ أن حمل بندقيته في ضحى أيلول الزاهي وراح يبدد الظلام المخيم على وطنه بسنا رصاصه المصوب ضد أوكار الإمامة ومرتزقتها في جبال اليمن وسهولها ، في حرض وحجة وصعدة وغيرها، حتى أداخ الحصى من شدة الركض الثوري الخالد في كل شبر من ثرى الوطن اليمني.
تعود البدايات الثورية الأولى للشاعر الثائر أبو ماهر بُعيد تلقيه للعلوم الدينية والإنسانية في المملكة السعودية حيث درس فيها على أيدي بعض الفقهاء في مكة المكرمة ثم مدرسة الفلاح في المدينة نفسها، لكن روحه الثائرة أبت أن يظل بعيداً عن وطنه الرازح تحت الحكم الامامي الجاهل والمستبد والحياة القاسية التي يكابدها شعبه فكان أن طرح بعضا من الأفكار الثورية على العميد الثائر محمد الرعيني الهادفة إلى التخلص من الإمام أحمد ...، كان ذلك في العام 1962 وقبيل ثورة سبتمبر، فأوكل الرعيني له ولإثنين من رفاقه مهمة التخلص من الإمام أحمد لكن العملية أُكتُشفت قبل تنفيذها وتوارى الفقيد عن الأنظار في وادي مور عند أحد أصدقائه حتى نجحت العملية الثانية من قبل ثوار آخرين، نجحوا في إصابة الإمام أحمد التي مات على إثرها فانبلج فجر الثورة غداة السادس والعشرين من سبتمبر أيلول المجيد.
في الأيام الأولى للثورة السبتمبرية انطلق الفقيد مع رفاقه إلى صنعاء وفيها شهد حفل تسلم الرئيس السلال قيادة مجلس الثورة ثم أتجه بعد ذلك إلى ميادين المعارك مع رفيقه المناضل محمد الرعيني وقاد حملات عسكرية عديدة على قوات البدر حتى أوصله إلى نجران فارا يجر معه أذيال الخزي والهزيمة حيث استمر في نضاله السبتمبري حتى العام 65 بعد أصبح البدر ومرتزقته خارج حدود الجمهورية المنتصره.
ومثلما كان الفقيد أبو ماهر ثائراً مِقداماً ومحارباً جسوراً فإن جداول روحه الدافقة بالوطنية والإنتماء الوطني الصادق كانت أيضا تنثال شعرا خالدا، تداخل فيه حبه اللامحدود لوطنه وامتزاج مع تربته حد التماهي التام، فأنشد فخورا بنفسه مقسِما بمجد الوطن كجندي حميري يماني لا يعرف الهزيمة أو الإنكسار ولا يأبه للمنيّة في سبيل موطنه على أن يراه متوجاً بالنصر ، خفّاقةً رايته على كل ربوة وتل ومشدودة على جسده الفارع كسارية أزلية لا تعرف السقوط أو الإنحناء:
يمينــــــــاً بمجدك يا موطني .... ويا مهد كل فتىً مؤمن
سأمضي على الـــدرب لا أنحني ... ولن أتوانى ولن أنثني
أنا الثائر الحر رمز النضال ... وجندي بلادي ليوم القتال
شــربت المنايا كشرب الزلال ... وتوجت بالنصر هام التلال
ولأنه عاش مرحلة الثورة والإرهاصات التي سبقتها فقد سجل كل معاركه الوطنية ودوّنها بأمانة ثائر صنديد وخيال شاعر جهبذ وكان لافتا في قصيدته الغراء التي عنونها بالنغم الثائر حضور الشعب في الثورة إذ أنه كان مؤمنا بأن الثورة لابد وأن تكون شعبية كاملة لافردية مجزأة، وأن المقاتل أو القائد لا يمكن أن يستمد القوة والصمود والثبات إلا من الشعب ولولا وثوب الشعب في فجر أيلول لما انتصرت الثورة، ولشدة إيمانه بشعبه ودوره المحوري في صون ثورته لم ينسَ أن يوصي أحفاده الشباب على السير في درب الثورة القويم وهم المنبثقون من ذلك الضوء السبتمبري العصي على الخبو أو التلاشي:
يا نسيماً عابقاً كالزهر .... طيب الأنفاس عند السحر
يا جلال الحق صوت القدر .... يا وثوب الشعب في سبتمبر
مولدي أنت ونور البصر .... ووميض في دمي المستعر
لا تسلني لا تقل ماذا جرى .... فطموح الشعب حكم القدر
جدد العزم وسر في دربنا .... يا شباباً من سنا سبتمبر
وبعد أنْ فرَغَ من مهمته الوطنية استراح متكئاً على جذع شجرة أيلول المجيد وقد امتدت أفياؤها من صعدة وحتى التهايم، كمحارب حكيم أكهلته تقادم الأيام والسنون ذائداً عن حمى وطنه، وهو يستعيد شريط كفاحه الطويل ويتذكر رفاق سيفه وقلمه، الشهداء والأوفياء والشرفاء، فخوراً بأنه ورفاقه بعثوا مجد اليمن من جديد، مذكِّر الجميع بأن ثورة سبتمبر رافقتها تضحيات جسام واضعاً تعريفاً ثوريا لليوم الذي صنعوه بدمهم القاني وغسلوه بعرق جبينهم المسكوب:
يا سطوراً من دماء الشهداء ... يا ضياءً في طريق الاوفياءِ
يا نشيداً في قلوب الشرفاء .... يا تراب الأرض يا كل سناءِ
رددي يا أمتي هذا غنائي .... وأهتفي أجيالنا ملء الفضاءِ
عاش أيلول المجيد
باعث المجد التليد
دمت يا أيلول تاريخي ومجدي
لقد كان الفقيد بحقٍ وحقيقة نغما ثائراً ونهراً وطنيا زاخراً ما اهتزت حِباله الصوتية إلا شدواً ثوريا تعزفه "رباب" وجدانه الخمائلية، وما خطت أنامله إلا عبقاً شعرياً على امتداد صفحات قلبه الأخضر "تهامة" ، ولم يكن نظْم الكلِمَ وتصويغ المفردات إلا دليلاً على أنه شاعراً "ماهرا" تسكنه عبقرية فذة وشعور وطني نبيل، ولم يخالط عشقه للأرض اليمانية أي شائب فذاب في ثراها ذوباناً كليّا وقاتل لأجلها مع الجنود كقائد وثائر، باذلاً لها روحه ودمه زلالا صافيا، وحرث أرضها المِعطاءة وتغنى بها كبتول وفلاح ساكباً عرقه على تربتها ملحا وسمادا، مناجيا في الوقت نفسه معبد الشمس كحفيد حميري سبئي يلتاع شوقاً ولهفة لتاريخه التليد لأنْ يغادر احتجابه الطويل ولتعود خيوط شمسه الذهبية لتضيء الأرض اليمانية وتجفف سيول الأغراب التي ما انفكت تحاول تجريف حضارة أجداده الضاربة وتاريخها العابق الممتد لأكثر من خمسة آلاف عام.