ربما لا تثير محافظة داخل اليمن الإهتمام، كما تفعل حضرموت، ففيها تجتمع الشخصية اليمنية بتراثها وميراثها وأصالتها وحكمتها.
وعبر تأريخها ظلت حضرموت مكانا ملفتاً للإنظار، مثيرا للانتباه، ففيها نشأت دول وسلطنات خاصة بها، كباقي الارض اليمنية، وفيها ايضا تشكلت حركات دينية وسياسية مختلفة، اختفى بعضها وتوارى، ولازال بعضها قائما.
لكن ظلت السمة الأبرز لحضرموت هي فاعليتها وحيويتها وقدرتها على التميز بشخصية فريدة تختلف عن كثير من خصائص عدة بقع جغرافية داخل اليمن.
فمن حضرموت أطل العلماء والأدباء والمفكرين الذين نبغوا في مختلف مجالات الحياة، وسطعت شمسهم ليس على اليمنيين فحسب، ولكن على العالم ايضاً، ومنهم على سبيل المثال ابن خلدون، وعلي احمد باكثير وغيرهم.
وساهم موقع حضرموت على البحر العربي، ومن خلفه المحيط الهندي، على حصول أهلها على فرص عديدة للإحتكاك بشعوب آسيا والتواصل معهم، وكان لهذا الامر نتائج إيجابية تمثلت بتأثير الحضارم في الشعوب التي وصلوا إليها دينيا، وهم يمارسون تجارتهم، ودخول العديد من ابناء تلك الشعوب في الإسلام.
لذلك ظلت حضرموت مكاناً بحاجة الى الاستكشاف والتوغل في تفاصيل تطوره الرأسي والأفقي، خاصة أنه لم يذوب في ثنايا الاحداث، وتلاطم الأمواج، ولم تؤثر عليه تقلبات السياسة، وتحولات الأيام، فلم يتوقف إنتاج ابناءها العلمي، ولا طموحات رجالها الاقتصاديين، ولم تتورط ككثير من البقاع في اليمن بالصراع الطائفي الضارب جذوره في التأريخ، أو المناطقي المليء بالأمراض المختلفة المزمنة.
وفي غمار مشاكل اليمن في جمهوريته المولودة بالعام90م كان ابناء حضرموت هم رجال السياسة الذين تولوا قيادة البلاد بحكمة ورشد في أحلك الظروف والمتغيرات التي عاشتها اليمن.
فخلال حرب صيف 94م تولى محمد سعيد العطار رئاسة الوزراء المؤقتة، وبعد الحرب تولى الراحل الدكتور فرح بن غانم رئاسة الحكومة، وضرب أروع الأمثلة في القيادة الحكومية الناجحة، بل إن مواقفه باتت تمثل اليوم شهادة حية على سوء إدارة المخلوع صالح للحكم.
وعلى شاكلتهم جاء الراحل فيصل بن شملان كأول رجل سياسي ينافس منافسة انتخابية حقيقية في الإنتخابات الرئاسية الثانية التي جرت في العام 2006م.
وعند تشكيل حكومة الوفاق الوطني قدم رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة مثالا عمليا لرجل الدولة الذي تمكن من إدارة اسوأ مرحلة إنتقالية عرفتها اليمن، ونجح في إنقاذ الوضع باليمن رغم التربص الذي أحاط بحكومته من المخلوع صالح اولا، ثم من الحوثيين لاحقاً.
والشيئ الوحيد الذي تساوت فيه حضرموت مع باقي المحافظات اليمنية هو الإرهاب وإستغلالها بأبشع صورة لصالح النخب الحاكمة، سواء أكان ذلك في عهد التشطير او في عهد المخلوع صالح.
والمجتمع الحضرمي لازال يتذكر قصة العالم الشيخ علي بن محمد صالح باحميشن الذي تم إغتياله إبان فترة الحكم الشمولي في اكتوبر من العام 1977م، بسبب اراءه المنتقدة لطبيعة الوضع في تلك الفترة، خاصة بعد تأسيسه لصحيفة محلية أطلق عليها صحيفة (الذكرى).
في الوقت الراهن عرفت حضرموت الإرهاب بشكل مبكر تحت حكم المخلوع صالح، وكان اول حادث في هذا المضمار هو تفجير ناقلة النفط الفرنسية (ليمبورج) في سواحل المكلا في العام 2002م، ومن بعدها توالت عمليات الإرهاب في حضرموت والتي كان معظم مرتكبيها من غير ابناء المحافظة بشكل كبير.
ومنذ خروج صالح من السلطة سعى لتحويل حضرموت البعيدة جغرافيا عن المركز السياسي لصنع القرار في العاصمة صنعاء الى مكاناً ووكراً للعنف والإرهاب.
ولعل الجميع يتذكر ان أول حادث إرهابي في مسيرة الرئيس هادي كان في حضرموت، ووقع أثناء تأديته اليمين الدستورية في مجلس النواب في الـ25 من فبراير من العام 2012م بعد إنتخابه رئيسا توافقيا، عندما هاجم تنظيم القاعدة القصر الجمهوري في المكلا، ليدشن بذلك عهدا جديدا من الحرب المفتوحة ضد المقار الحكومية وثكنات الجيش في حضرموت وغيرها.
اليوم تعيش حضرموت وضعا مضطرباً تضاعف بشكل أخطر منذ تحريرها التحالف العربي لها، وطرده للقاعدة من مدينة المكلا وضواحيها، ما يؤكد أن التلاعب بورقة القاعدة من قبل المخلوع صالح لم يعد خافياً على أحد، فالقاعدة التي ظهرت بهذا المسمى من قبل، هي ذاتها التي تقدم نفسها في الوقت الراهن كوكيل لداعش وممثلةً له في اليمن.
هذا الوضع المضطرب يأتي في الوقت الذي تدار فيه حضرموت من ابنائها، بعد ان ظلت طوال العقدين والنصف الماضيين تدار عبر شخصيات من خارجها تعاقبت على إدارتها، واحدا تلو الآخر.
في حضرموت اليوم يتشكل وجهاً غاضباً، بعد أن مس الضر كثير من ابنائها، وارتفعت وتيرة التذمر والاستياء الى ذروتها، وبات الحضارم يدركون اكثر من أي وقت مضى ما يجري حولهم، وكيف يراد لمحافظتهم أن تتحول الى غير الوجهة التي يرغبون بها.
وبالتأكيد فإن حضرموت اليوم بحاجة ماسة لإنقاذها، وقطع دابر الخيوط التي تلتف حولها، فاليمن تحتاج حضرموت لترفدها في السياسة والاقتصاد مثلما كانت في السابق.
ولا تحتمل حضرموت ان تُحمل فوق طاقتها ما لا تقدر عليه.