الآن عادت تعز الى تعز، وعاد رأس المدينة الى جسدها، وعاد شارعها الشرقي الحوبان الى جملة شوارعها.
عاد مشوار الست ساعات عبر طرق الجبال والوديان والوهاد إلى خمس دقائق عبر الباص.
عادت تعز وعاد الزمان
اليوم البكاء مرتين، الأولى فرحاً وبهجةً، والثانية حزناً على أناس وأهل وأقارب وأباء وأمهات وأشقاء وأصدقاء فقدناهم ولم نتمكن من زيارتهم وتشييعهم وهم على بعد خمس دقائق، رأينا مواكب تشييعهم وسمعنا بكاء الحزن عليهم، وتكبيرات الصلاة عليهم، وعجزنا عن الذهاب في خمس دقائق.
وآخرون عاشوا الفرح والأعراس وصفقوا ورقصوا ونحن نراهم رأي العين ونسمع "زغاريد" بهجتهم، ونشاهد الألعاب النارية ترفل في سماءنا وسمائهم ولكنها أبعد ما تكون عنّا.
بكى كثيرون في مشهد اليوم قبل قليل لأن أمهاتهم ماتت بين أيديهم يوماً ما وكانت جلسة الغسيل الكلوي على بعد دقائق لكنها تحتاج ساعات جبلية شاقة لا يحتملها مريض وكبير سن.
سيلتقي أباء وأمهات ببناتهم والأبناء في مشوار واحد، بعد أن كانوا يلتقون كل ثلاث أربع سنوات وهم في شارعين متجاورين.
الآن لأول مرة جيل "من مواليد سنوات الحرب" وما قبلها بقليل في الحوبان سيعلم أن هناك جامعة عملاقة على بعد ربع ساعة منه في طرف المدينة، وآخر في حوض الأشرف سيرى حديقة فخمة وهي دريم لاند ،وأخرى عامة وثالثة هي حديقة الحيوانات الشهيرة في الحوبان ويستطيع التنزه فيها والعودة في دقائق.
ستتفتح عيون أجيال لأول مرة على لوحات منصوبة في بعض جوانب الطرق تحمل عبارة "خطر حقول ألغام"، في مدينة كانت كلها حقل تعليم، وكان من يتجول بالسلاح في شوارعها موضع سخرية وازدراء ومبعثا للضحك،
اليوم سيعود مُلّاك منازل لزيارتها لأول مرة منذ عشر سنوات، وقد نزحوا الى مسافة عشر دقائق منها، بعضهم نزحوا الى الحوبان وآخرون منها الى الحوض أو المركزي أو المغتربين، أو شارع جمال وهكذا.
سيحكي التاريخ قصصاً محزنة بائسة وأخرى غير معروفة عن رأس فُصل عن جسده طويلاً، وعن صراع تعذّب معه الآلاف من المرضى والمقعدين وعابري السبيل من شارع الى شارع مجاور في المدينة ذاتها.
اليوم نستحضر قول شاعرنا الكبير المرحوم عبدالله البردوني:
يا صديقي أنت أدنى من فمي فلماذا أنت أنأى من مُرادي؟!
أنت في البعد قريبٌ وأنا في غياب القرب مثلي في ابتعادي