الأسبوع الماضي، كنتُ أحتفل مع ابني وابنتي بمناسبة الاستعداد للتخرج من الثانوية.
كنا عشرات العائلات من مناطق يمنية مختلفة نحضر هذه المناسبة، التي أقامتها مدرسة يمنية في مصر.
حضر الحضرمي، العدني، الضالعي، اليافعي، التعزي، الصنعاني، المحويتي، التهامي والعمراني، وربما كانت جميع المناطق اليمنية موجودة في القاعة.
عندما عُزف النشيد الوطني لم أستطع مواراة دموعي، سرت في بدني قشعريرة وكأنني أسمعه وأردده للمرة الأولى، ونشجت من داخلي كطفل.
رأيت هذا التأثر في وجوه كثيرين، وكأننا نرثي بلدنا، لكن النشيد كان يلملم شتاتنا، ويربّت على أكتافنا مانحاً أرواحنا بعض اليقين بأن كل شيء سينتهي، وأن الدنيا "لن ترى على أرضي وصياً".
في الأسبوع نفسه، كانت اليمن تعيش مناسبة العيد الوطني الرابع والثلاثين للوحدة اليمنية. ككل ذكرى سنوية لهذا الحدث، كانت المناسبة تشطر أرواح اليمنيين، التي جرحتها الحرب، لكن التوق إلى الانعتاق من ربقة تداعيات ما فعلته كان أكبر.
بدا الاحتفاء بالذكرى حالة عامة، مع الإقرار بأن الضرر الذي ألحقته الحرب بأرواح الناس، في اتجاهات البلد الأربعة، لن يُشفى بسهولة.
في قلب ذلك الأسبوع كان هناك مؤلف آخر للقلوب، غير ذكرى الوطن الجريح، يجمع اليمنيين على مسرح واحد، يُشرع نوافذ الحب والأمل، ويعزف التوق اليمني للخلاص سيمفونيات رائعة في العاصمة القطرية (الدوحة).
بدلاً من دوِّي المدافع والقصف وشرور الحرب، يخبر المؤلف الموسيقي البارع محمد القحوم اليمنيين بأن لدى اليمني "نغماً" يمكن أن تشدو به الدنيا، ويجعلها ترقص جذلاً في الدوحة كما باريس، وعلى ضفاف النيل كما كوالالمبور.
"نغم" يمكن أن يمسك الأرض من أطرافها ليحكي قصة اليمني: أشواقه وتعبه، حبه وولهه، انكساره وانتصاره، فرحه وحزنه، غربته ووطنه. يخبرهم أن هويتهم واحدة مهما حاول السياسيون تمزيق البلاد، وأن مصيرنا واحد مهما أوغلت الأحقاد والضغائن، وأن هذا التنوع الهائل مصدر إلهام وقوة، يؤلف نغماً ساحراً يعلو ولا يعلى عليه، يؤلف اليمن.
لقد كانت الحرب بمثابة مدية قطّعت أوصال اليمني ومزّقت صورته، وكان الموسيقي محمد القحوم ذلك الماهر، الذي أعاد تأليف الأحجار المبعثرة في أحجية البازلت، معيداً تشكيل الصورة الحقيقية لبلده في أزهى شكل، وأجلَ مكانة.
دارت روؤس اليمنيين والعالم معهم، استمتاعاً وهياماً بالتراث اليافعي، كما التعزي والتهامي، والحضرمي إلى جانب الصنعاني واللحجي، والكوكباني كما المهري.
رقصت قلوب اليمنيين مع القحوم، وكأن الرجل يمنحهم العزاء عن واقع يصدمهم كل يوم بمأساة.
فعلياً أيقظت موسيقى محمد القحوم، المؤلف الفذ، أشواق وآمال اليمنيين التي أطفأها الساسة.
صاغ الرجل مقطوعات بعثت القشعريرة والزهو في الجسد اليمني، حين كانت آثار الحرب ما زالت تتدفق وتدمي الأفئدة.
صفق سالم الجحوشي، المسرحي والمعلق الصوتي الأشهر على قناة "الجزيرة"، وكأنه يوشك على القفز لاحتضان المقطوعة التي أشعلت قلبه، أو لعله أراد احتضان وطنه البعيد. بكى يمنيون كثر، مثلما استمتعوا، وهم يشاهدون محمد القحوم وفرقته الأوركسترالية تعيد صياغة اليمن في أبهى حلة وأعظم صورة، حيث يتكثف التراث الغني والمدهش كآخر حارس لليمني من نزقه وقسوته وارتهانه.
في لحظات الانكسار الكبيرة، بينما يوغل السياسيون وجنرالات الحرب في تمزيق أوصال البلاد بمزاعم ودعاوى إفك كبيرة، يتقدم أبطال من نوع آخر لترميم الصدوع وإطفاء هذه النار التي تشتعل في ثوب البلاد.
أرى محمد القحوم بطلاً قومياً يمنياً يواجه هذا الانهيار بطريقته، فيقرع أجراس اليقظة والعاطفة معاً.
في سنوات التمزق والانقسام يجمع الفنان الشاب الجسور شتات البلد، وليس هناك ما هو أكثر جدارة من تراث الشعوب ليكون حائط الصد الأخير والمتكأ، وقد أثبتت هذه الطريقة نجاعة في إعادة اليمني إلى صوابه، اليمني العادي الذي يمنحه التاريخ مكانة رفيعة، هو أجدر بها وأكثر في حاضره.
يصغي اليمني لصوته في الأعماق، ويرى صورته في تراثه الفاتن، فيبكي كطفل يبحث عن أمه.
هي صورة أخرى لعبارة البحتري الشعرية:
إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها
تذكرت القربي ففاضت دموعها
ولا أظنّ اليمنيين اليوم أكثر حاجة لأن تفيض دموعهم بعد أن فاض طوفان دمائهم ليغطي وجودهم!
في هذا السياق، يقود القحوم مشروعاً ثقافياً ووطنياً من النوع الذي لا يقاوم بدأب ومثابرة.
مشروع السيمفونية التراثية بدأه القحوم، منذ عام 2019، بدعم من مؤسسة حضرموت للثقافة، وهو يفعل ذلك لأنه فنان شغوف ومبدع، ولأنه أيضاً واعٍ ومدرك للمهمة العظيمة التي يتصدرها.
"الهدف من المشروع أن نظهر صورة إيجابية عن بلدنا في ظل الأوضاع التي يعيشها بلدنا"، قال القحوم لقناة "الجزيرة"، بعد حفل "كتارا" في الدوحة.
يضع القحوم الألوان والآلات الموسيقية التراثية في قالب أوركسترالي.
بالتجربة أثبت محمد القحوم أنه يمكن المزج بين الآلات والإيقاعات الموسيقية الشرقية والغربية، وتأليفها في مقطوعات سيمفونية يمنية عالمية.
كان يتحدث على المسرح عن اليمن أكثر بإيماءاته وتموجات أصوات الآلات التي تعزفها فرقته الكبيرة، وكان يؤكد فعلاً أن التراث المتنوع يشكل الهوية الوطنية اليمنية الممتدة من أقصى الجنوب والشرق إلى أقصى الشمال والغرب.
قبل 7 سنوات، كان المعلق اليمني في قناة الجزيرة، سالم الجحوشي، يتساءل عن "شتات اليمن في اليمن"، خلال برنامج "المشاء":
من يعيد صورتنا؟
من يعيد وئامنا؟
من يطلق أهازيجنا بدل أصوات القصف والانفجارات؟
من حضرموت قدِم محمد القحوم، وكأنه قد جهز نفسه للإجابة عن هذه الأسئلة، أسئلة اليمني والحضرمي الآخر سالم الجحوشي: منطلقاً من كوالالمبور إلى باريس مروراً بالقاهرة، وصل حامل الأهازيج محمد القحوم إلى الدوحة باعثاً في أوصال اليمنيين نشوة الوجود.
أتذكر الأستاذ سالم الجحوشي في "المشّاء" وهو يطلق ما قال إنه السؤال الوجودي لليمنيين: نكون.. أو لا نكون.. كيف نكون؟
"أيها اليمنيون أعيدوا التناقضات إلى أبطال المسرح، واستمتعوا بغنى الذات اليمنية المبدعة.. أعيدوا السلاح إلى غمده، وتعالوا إلى المسرح واستمعوا بحذر إلى سؤال: نكون.. أو لا نكون؟".
نريد المتحاربين أن يغادروا مسرح الصراع، وإفساح المجال للأبطال لنكون.
يجب أن نكون؛ لأننا نستحق مكاناً لائقاً بين الأمم، وسنكون أجمل وأبهى بقيادة بطلنا، المايسترو الاستثنائي، محمد القحوم.
*نقلا عن قناة بلقيس