في الوقت الذي كان العالم ينظر فيه إلى اليمن كبلد يحتاج إلى مساعدة الجميع لانتشال سكانه من قاع الفقر والمرض، تمكنت جماعة "أنصار الله" الحوثية من تشتيت الأنظار ودفعها في اتجاه البحر الأحمر الذي حولته إلى مساحة عسكرية مفتوحة لإرباك الحركة التجارية البحرية تحت شعار مساعدة أهل غزة.
من قبيل الوهم واستنزاف الوقت والجهد مواصلة الحديث عن إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام بين اليمنيين وليس ذلك من باب التشاؤم ولكن لغياب القيادات الوطنية البعيدة عن الانتهازية والتي من دونها لا يمكن الركون إلى النوايا الحسنة لتضاؤل قيمتها إذا لم تكن مرتبطة بضمانات ملزمة لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه بين متحاربين لا يقيمون أصلاً شأناً كبيراً للمصلحة الوطنية، ولن يكون ممكناً تحويل أي اتفاق إلى قواعد راسخة للعمل والعيش المشتركين. ويدرك الفاعلون الإقليميون والدوليون أن معالجة القضايا الإنسانية هي المدخل الطبيعي الذي يؤسس لمعالجة الآثار المدمرة التي ضربت جذور السلم الاجتماعي ومزقت النسيج الوطني وانتجت أحقاداً لا يمكن معالجتها بمجرد التفاؤل والدعاء بالهداية.
طرقات مقفلة برسم الفتح
قبل أيام قليلة مثلت التجربة الفاشلة لفتح طريق صنعاء – الضالع – عدن وقبلها مدخل مدينة تعز الرئيس، بعد جهود مضنية بذلتها مجموعة من المواطنين على أمل إنجاحها، مؤشراً على العقبات والمصاعب التي أفرزتها السنوات التسع من الحرب وبرهنت على أن وقف الحرب الداخلية ما زال سراباً وغير قريب بسبب المزايدات من كل الأطراف التي لا تضع أي اعتبار أخلاقي وإنساني للمواطن الذي بات مقتنعاً بأن أياً من أطراف الحرب لا يمثل مصالحه ولا يعبر عن آلامه.
وكان موقف المجلس الانتقالي الجنوبي الذي عبرت عنه تصريحات اللواء عيدروس الزبيدي، عضو مجلس القيادة الرئاسي، واضحاً، بأن فتح الطرقات لتسهيل تنقل المواطنين داخلياً مرتبط بالحل السياسي الشامل، وهو منطق يمكن تفهمه في إطار الرغبة التي يمثلها وتدعو إلى إعادة الحدود الدولية بين جنوب اليمن وشماله. لكنه في الوقت ذاته لا يستقيم أخلاقياً مع الحديث المتكرر عن الحرص والعمل على تخفيف معاناة الناس، بل ويتناقض مع الحديث الإعلامي عن المعالجات التي يجب إبعادها عن التطرف والمزايدات السياسية.
التبريرات التي ساقها موقف المجلس الانتقالي الجنوبي في بيان صدر في 14 مارس (آذار) الجاري لا يمكن تسويقها إلا تحت مبدأ واحد وهو الإصرار على تثبيت واقع عملي للحدود الدولية السابقة بين شطري اليمن قبل قيام الوحدة في 22 مايو (أيار) 1990، وهي قضية ليست مطروحة للنقاش الآن، وسيكون مجال بحثها في إطار الحل الشامل، وهذا يعني صراحة فرض استمرار المعاناة التي يتحمل المواطن منفرداً أثمانها من ماله ووقته وجهده لأن القيادات اليمنية (شمالية وجنوبية) لا تستخدم هذه الطرقات في تنقلاتها.
التجربة الليبية
ذكرت قبل أشهر أن من المهم دراسة التجربة الليبية على رغم ما يشوبها من عوار سياسي إلا أن الكيانات المتحكمة في مناطق البلاد وضعت نمطاً ييسر على الناس تنقلاتهم، وتعاون المصرفان المركزيان على تثبيت سعر واحد للعملة، وجرى تأمين الطرقات والمطارات، ولم يتذرع أي طرف بضرورة انتظار الحل السياسي كي يتمكن الناس من زيارة بلادهم والتنقل بين مناطقها.
بطبيعة الحال فإن النموذج الليبي له خصائص مرتبطة بطبيعة التدخلات الخارجية والصراع حول السلطة بين مناطق البلاد، وفي الحال اليمنية قد يكون مقبولاً العودة إلى الحديث عن شكل نظام الحكم وحتى إذا ما تم التفاهم مستقبلاً على عودة "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" فإنه لا يمكن أن يمزق أواصر القربى والتمازج الثقافي والامتدادات القبلية.
لا مؤشرات
في إحاطته الأخيرة إلى مجلس الأمن الدولي لم يقدم المبعوث الأممي هانز غروندينبرغ أي مؤشرات عن رغبة الأطراف اليمنية في الانخراط لتنفيذ الشق الإنساني من خريطة الطريق التي صاغتها المملكة العربية السعودية وسلمتها إليه كي يعمل على تنفيذ نصوصها، ومن السخرية أنه استخدم مفردات تعبر عن إحباطه من المتحاربين اليمنيين: (كنا نأمل...)، (وكنت آمل...)، (وكان يجب...)، (وكان من المفترض...)، (وكان ينبغي...)، كل هذا في فقرة واحدة بدأ فيها حديثه إلى مجلس الأمن.
إن هذه التعبيرات تدل بجلاء عن ضيق المجتمع الدولي الذي كان وما زال ينظر إلى اليمن بعين الشفقة والرحمة جراء ما يتعرض له الناس الذين أذلتهم سلطة قامعة في صنعاء حرمتهم من الحريات العامة والشخصية وأدنى مقومات الحياة الكريمة، وأخرى في عدن منشغلة بالدعاية الشخصية والتقاط صور وفيديوهات لتحركات وحركات المسؤولين، في مشهد ساذج فيه الكثير من المراهقة. وبدا الأمر كما لو كان تهيئة لخوض انتخابات قريبة في بلد صار حلم أغلب مواطنيه الحصول على وجبة طعام واحدة يراها ترفا.
نقلا عن اندبندنت عربية