احتاج اليمنيون إلى سنوات كي يدركوا بأن حروب صعدة الست، التي قادها نظام صالح ضد الحوثيين، كانت في كثير من مراحلها مفتعلة بهدف أراده صالح، وهو التخلّص من شريكه في الحكم، علي محسن الأحمر، وإغراق قواته في ثارات مع الحوثيين.
يعلم الله كم سيحتاجون من سنوات أخرى كي يتأكدوا تماما أن "المؤامرة" هي من هزمت اليمن، وليس ضعف الجيش الوطني، أو فساد بعض قياداته.
لا أحد يستطيع الدفاع عن الفساد، ولا تخلو أية وحدات عسكرية أو سياسية من بؤر فساد، مهما أبدت من صرامة والتزام بالنظام والقانون والفضائل.
لكن في الحالة اليمنية، وفي مواجهة هذه الآفة القادمة من أدغال التاريخ، كان بمقدور فرقة عسكرية صغيرة إلحاق هزيمة سهلة بالحوثيين، حتى وإن كان الفساد معشعشا في جنباتها.
المؤامرة كانت أقوى من تحرك القيادات العسكرية المدفوعة بالشرف العسكري، والنزعات الوطنية.
لم تكن مؤامرة من وراء ستار فحسب، بل مكشوفة وفاضحة، واستخدمت فيها القوة العسكرية المفرطة عندما كانت تعترضها مصدات العرقلة.
قبل أيام، قال العميد طارق محمد عبد الله صالح إن الذي أمرهم بالتوقف عن دخول الحديدة هو من أجبر الحوثيين على وقف العمليات العسكرية.
هذا تصريح لافت من قائد عسكري كبير مدعوم من جهة قادت وشاركت عسكريا في إسقاط اليمن في براثن التفتيت والتقسيم.
أوضح طارق أن تلك الجهات أمرته بالتوقف عن العمليات العسكرية، وهو الذي ظل أنصاره يتبجحون بقدراته وفرادته عن بقية قيادات الجيش، وأنه لن يظل هناك في الساحل الغربي.
في جبهة نهم، كانت هناك وحدات عسكرية تتحدى الجبال وسط حملات ممولة للتشويه والحرمان من السلاح والمال.
ظل أفراد الجيش بدون رواتب لمدة أشهر، ومع ذلك وصلوا إلى منطقة تطل عسكريا على العاصمة صنعاء، قبل الغدر بهم وصدور أوامر بالانسحاب إلى مفرق الجوف. وسط هذه المعارك، كانت الغارات الجوية من نصيب قيادات وأفراد الجيش الوطني في أكثر من جبهة تحت مسمى "الغارات الخاطئة".
في منتصف العام 2015، وهو وقت مبكر لبدء عاصفة الحزم، استهدفت غارة جوية أكثر من مائة جندي وضابط، بقيادة العميد أحمد الأبارة، في منطقة العَبر بمحافظة حضرموت. منطقة العَبر كانت بعيدا عن مسرح العمليات العسكرية، وكان المعسكر معداً بشكل جيّد لتدريب قوات الجيش، وأفشى قادته بخططهم المستقبلية لتكوين نواة الجيش الوطني.
تكررت الغارات الجوية للتحالف، مستهدفة قيادات الجيش بشكل أوضح، حتى إن الإمارات خرجت للعلن، في أغسطس 2019، لتصرِّح بأنها منعت قوات الجيش من دخول عدن، وقصفت من اعتبرتهم إرهابيين.
قبل سبتمبر 2014، كانت طائرات الدرون تجوب سماء العاصمة صنعاء لتسليك الطريق أمام الحوثيين، ومراقبة أية تحركات لقوات مناوئة.
لا يمكن لليمنيين نسيان دور علي عبد الله صالح وقواته (الحرس الجمهوري)، التي جعلت "المؤامرة" سالكة وقوية النفاذ، كما هو أيضا تخاذل قيادة الرئيس هادي وتواطئه مع التحركات الإقليمية والدولية.
يجري الآن طبخة جديدة بين الحوثيين والسعودية، التي ربما قررت أخيرا الخروج بشكل نهائي من الحرب والتحول إلى وسيط.
لا أحد يتوقع بعد هذه السنوات أن الشرعية تملك خيارها غير ما ستختاره السعودية.
وليس من المتوقع أن تتخلى السعودية عنها بشكل كامل، فلا تزال بحاجة إليها في المفاوضات غير الحاسمة مع الحوثي.
من حسن حظ الشرعية أن تصلّب الحوثي في المفاوضات، وتصعيده المستمر، يجعل الرياض بحاجة إليها كورقة تفاوض ومساومة، وبالتالي الحفاظ على بقعتها الجغرافية.
لدينا الآن شرعيات متناقضة أمام الحوثي، وكل شرعية باستطاعتها هزيمته، إذا أراد الممول، حتى بدون تدخل مقاتلاته الجوية، يكفي أن يكون مراقبا محايدا.
لكن هذه التركيبة في معسكر الشرعية صنعت من أجل التعقيد، وجعل الحلول غير مُمكنة. ما يزال الهدف المشترك إضعاف الشرعية وتفتيتها وشرذمتها.
وبالتالي، أنتجت السنوات الماضية واقعا مائعا شديد التعقيد؛ واقعا يجعل من الحوثيين رقما صعبا حتى ولو كانوا يحملون سيوفا من خشب.
بوسعهم المراقبة -بسخرية- ما يحدث في صف الشرعية، وهم يرون تجريدها من مكامن قوتها العسكرية والاقتصادية، وكأنها وُجدت من أجل خدمتهم، وتحسين صورتهم أمام جموع المحتجين، والغاضبين في مناطق سيطرتهم.