بين كبوة اليمن ونهضتها تَتَخَلَّق القيادة والرِّيادة، ومن رحم الأحداث يولد العظماء..
لمن يسوؤهم اليوم ما تمر به البلاد من كبوة حقيقية وظلام دامس، تعالوا بنا نغوص في بحر الأمل والتفكر، ونوقد شموع العمل والدروس التاريخية، لنعرف كيف تنهض اليمن عند كل منعطف.
العام الـ626هـ كان المنصور عمر بن علي رسول يعمل بصمت ليؤسس الدولة الرسولية، منقلباً على الدولة الأيوبية، ولأول مرة تُحكم اليمن من أبنائها منذ صدر الإسلام، على اعتبار أن الرسوليين غسانيون وذووا أصول يمنية، تاهوا في الأرض ثم عادوا إليها بعد زمن طويل. فقد جاؤوا إلى اليمن من العراق مروراً بالشام إلى مصر ومن ثم استقروا في اليمن كقادة جيوش للأيوبيين ووزراء لهم.
استقلال الرسوليين باليمن عن الأيوبيين لم يرق للدولة الأيوبية في مصر والشام، وحاولت كثيراً استرداد اليمن من أيديهم، ولما عجزت عن ذلك رضيت منهم بالقليل، وهو البقاء على صلة وتابعية للدولة الأيوبية.
في عام 647هـ اغتال المماليك البحرية السلطان المؤسس عمر بن علي رسول بتخطيط خارجي وتواطؤ داخلي وخيانة من الجيش والأسرة، ودعم من ابني أخيه بدر الدين وهما أسد الدين والي المنصور على صنعاء بدعم إمامي، وأخيه فخر الدين، بدافع الانتقام لاعتقال والدهم وإرساله إلى مصر مع بقية إخوانه.
وباغتيال الملك المؤسس تفرقت اليمن إلى عدة دويلات متشرذمة وقبائل متسيدة مختلفة، فكانت صعدة وعمران وحجة مع الإمامة، وصنعاء وما جاورها مع أسد الدين، وجزء من تهامة مع فخر الدين والمماليك، وتعز والجند وأبين وعدن مع زوجة الملك المغدور بنت جوزة وابنيها المفضل والفائز، وكان المفضل ولياً للعهد غير متوج، والبيضاء ومارب إلى الضالع مع الشيخ علوان الجحدري، وحضرموت وشبوة استقلت بذاتها، وجزء من تهامة ومدينتها الأهم المَهْجم يومها مع الأمير شمس الدين المظفر؛ أكبر أبناء الملك المؤسس، وهو الذي سيسترد كل اليمن ويوحدها ويعتبر الباني الحقيقي للدولة الرسولية ونهضة اليمن التاريخية، وزبيد العاصمة الثانية للدولة الأيوبية استولى عليها المماليك بدعم من فخر الدين، وكانت أم المظفر وأخته الدار الشمسي ساكنتي قصرها، بعد اعتقال أتابك المظفر فيها وسجنه من قبل المماليك وهو الطواشي تاج الدين بدر الصغير.
لعبت تلك الملكة (الدار الشمسي) الدور الأكبر في إفشال الانقلاب في زبيد وحفظ المدينة ومشاركة أخيها المظفر كل شؤون الحكم والسياسة ونهضة اليمن.
كان المظفر قد امتطى حصانه متجهاً صوب بغداد ليشكو أباه الملك المنصور للخليفة العباسي بسبب إزاحته من ولاية العهد ومنحها لأخيه الأصغر من بنت جوزة (هكذا كانت تسميتها) وهي ابنة الوزير سيف الدين سنقر وزير الأيوبيين، وأثناء ركوبه متوجهاً إلى بغداد جاءه خبر اغتيال أبيه في الجند.
لم يكن مع المظفر في المهجم سوى حامية بسيطة، فأشار عليه فقيهه بجمع عرب المهجم (المواطنين) وتسليحهم لاسترداد زبيد ومن ثم المملكة كلها.
عمل المظفر على التحرك الفوري من المهجم وبدأ يمر على القبائل قبيلة قبيلة وهم يلتفون حوله من تهامة كلها وصولاً إلى زبيد العاصمة التي كانت أولى محطاته، ولم يكد يصلها حتى كانت أخته أخذتها واستتبت الأمور فيها واستقبلته استقبال الفاتحين، ومنها أعلن المظفر نفسه من لحظتها ملكاً على اليمن للدولة الرسولية وخلع أخيه المفضل المحاصر في الدملؤة.
بعد زبيد توجه مباشرة طريق الساحل الغربي ليطوق اليمن من ساحلها مروراً إلى موزع والوازعية ثم إلى عدن وأبين التي كانت تحت حكم أخويه وأمهما، وكان كلما مر مدينة أخضعها له ودانت له طواعية دون مقاومة وعناء، فقد كانت سمعته تسبق مسيره إلى كل منطقة يسير إليها.
إلتف على تعز، عاصمة الملك ومقر عرشها، ولم يلتفت إليها إلا بعد أن استرد المحافظات الجنوبية والغربية، وصارت مطوقة من كل النواحي، ولم يبق مع أخويه المفضل والفائز وأمهما إلا قلعة الدملؤة متحصنين بها، وهم يرون كل المناطق تتسارع تساقطاً بيد المظفر شمس الدين يوسف.
وأخيراً، وبعد أن أحاط المظفر تعز من كل الاتجاهات كإحاطة السوار بالمعصم حاصر حصن تعز (القاهرة) شهرين متكاملين وأسقطه بحيلة من داخله.
ترك الملك المظفر الدملؤة إلى آخر المطاف، بعد أن أعاد صنعاء وإب وذمار، ثم عاد ليأخذ الدملؤة بعد ذلك بحصارها شهرين أيضاً، ثم استعان بأخته الدار الشمسي فأسقطتها بالحيلة أيضاً.
كانت مناطق الشيخ علوان الجحدري مستعصية على الملك المؤسس المنصور، ولم يستطع أخذها منه، إلا أن المظفر انتزعها من الشيخ علوان الجحدري وصارت معظم اليمن معه، ثم بعد ذلك تحرك إلى صعدة والجوف وحجة والمحويت، ولأول مرة تدخل صعدة تحت حكم الدولة منذ أكثر من 300 عام تقريباً باستثناء زمن قليل للدولة الصليحية، ودوخ الملك المظفر الإمامة التي عادته حياً وميتاً وكل تركته وتراثه وما خلفه من إرث حضاري بلغ حد أن يحاول الأئمة تدمير كل شيء له علاقة بالدولة الرسولية.
لم يكتف الملك المظفر بذلك، بل توسع شمالاً إلى وسط الجزيرة العربية وشمالها، وجنوباً وغرباً أن دان له القرن الأفريقي وخطب باسمه في أفريقيا، وشرقاً إلى عمان، ومآثره في كل مكان ذهب إليه، حتى أنه شارك في حماية مصر من الغزو الصليبي.
لم يكن طريق المظفر مفروشاً بالورود، وليس سهلاً عليه البتة؛ فقد كانت المؤامرات الداخلية والخارجية عليه لا تفتر أبداً، إلا أنه كان يستطيع الخروج من كل العثرات والأشراك والفخاخ التي كانت تنصب في طريقه.
وسط كل تلك الصراعات التي لا تفتر أبداً نجد همة للرجل تبلغ عنان السماء؛ فقد كان ليلاً لا يفتر أبداً عن ورده اليومي أو الليلي من القراءة والكتابة حد أن استطاع أن يؤلف أحد عشر كتاباً في مختلف العلوم؛ الطب، والفقه، والسياسة، والفراسة، والفلاحة، والأدوية، واللغة، والحديث، والتفسير، والفلك والحساب.
الشاهد في الأمر أن اليمن وصلت إلى الحضيض أكثر مما هي عليه اليوم، لكن وبهمة القيادة المخلصة نهضت اليمن مجدداً، وعاشت أزهى عصورها الذهبية نهضة وعلماً وحضارة وثقافة؛ فاليمن ولّادة بالقادة العظماء، وقد يفاجئنا الميدان بقيادة تتخلق فيه لتنهض باليمن من كل هذا التردي.
*نقلا من صفحة الكاتب على فيسبوك