في قريةٍ صغيرةٍ من قرى اليمنِ الكبير، تحديدًا في جنوبِ شوكان، المائلة عن صنعاء شرقًا نحو عشرين كيلو متر تقريبًا، ولد نهار الاثنين الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1173هـ / 1760م، محمد بن علي الشوكاني. ولم يكن ثمة من يعلمُ في يوم مولده؛ أنَّ قريته الصغيرة ستصبحُ على كلِّ الألسنةِ في يومٍ ما؛ لقد استقتْ مكانتها من مكانةِ المنتَسِبِ إليها.. وفي اللحظة التي أصبحَ فيها الشوكانيُّ علمًا من أعلامِ القُطْر اليماني، وامتدادًا مباركًا لبقايا الكبار، ظلَّت شوكان تلكم القرية الصغيرة حاضرة في الأذهان، وخُلِّد ذكرها في بطونِ الكتب، وأروقة التاريخ؛ بسبب "طفل" نبتَ فيها ونشأ في رباها، وأصبحَ من العظماء.
نشأَ الشوكاني في بيتٍ من بيوتِ المعرفةِ والعلم، وهناكَ بدأت قصة الطَّلبِ الكبرى، ففي مراحله الأولى أتمَّ القرآن الكريم، وقرأ مداخل العلوم، ومختصراته، وبدأ على إثر ذلك؛ تظهرُ عليه ملامح العبقرية، وعلاماتِ النباهةِ والنُّبوغ!
نَذرَ نفسه للعلم، ومضى بثباتٍ يشقُّ طرق المعرفة بخطى واثقة، فبعد أن حفظَ وأتقنَ كثيرًا من كتبِ الفنون، طوى ركبتيه عندَ أهلِ العلم، فلم يبرحْها، حتى قضى نهمته، وباتَ آيةً في الطَّلب، وصدق التَّوجُّه، ومثالًا للشغفِ الذي يخترقُ حجب القلب؛ لقد كان شغوفًا بالعلم، وحقائقه الكبرى، فلانت بينَ يديه، وباتَ مرجعًا لها قبلَ أن يُطَرَّ شاربه!
وبعد أن استوفى بنيانه، وتوطدت أركانه، أصبحَ معقلًا للعلوم؛ تشدُّ إليه رحال شُداة العلم ومحبيه.
جلس لإفادة الباحثين عن العلوم، فكانوا يأخذون عنه في كل يوم زهاءَ عشرة دروس، في فنون متعددة، واجتمع منها في بعض الأوقات: التفسير، والحديث، والأصول، والنحو، والصرف، والبيان، والمعاني والمنطق، والفقه، والجدل، والعروض!
ولا يطيقَ ذلك إلا عالمٌ متبحِّر، فُتحَ له من العلوم والفنون ما لم يُفتح لغيره، وبنيان متين؛ صُنعَ تحتَ عنايةِ الإله! فقد برع في شتى الفنون، وصنف ودرس فيها، ولا غرو أنْ رأينا بعض كُتَّاب التراجم يعرِّف به فيقول: مفسر، محدث، فقيه، أصولي، مؤرخ، أديب، نحوي، منطقي، متكلم، حكيم.
حمل الشوكاني نفسًا ثائرة، وأعلى من شأنِ الاجتهاد، ونابذَ التقليد الذي استشرى في العقلِ الإسلامي، وخاضَ معارك فكرية وفقهية دوِّنت أحداثها في ثنايا الكتب، كان فارسًا من فرسان التنوير الإسلامي، وامتدادًا مباركًا لكبار الأئمة الذين أثروا المكتبة الإسلامية بأماتِ الكتب؛ بتحريرٍ عميق، وفكرٍ حر، واستقلاليةٍ مدهشة..!
لقد ترك الإمام الشوكاني إرثًا عظيمًا لا زالَ العلماء وطلبة العلم ينهلون منه إلى اللحظة.. كتبَ في شتى الفنون، وحاز السَّبق، وكُتبَ لمصنفاته القبول، فحُملت إلى كلِّ أصقاع المعمورة.. فلا يكاد يخلو بيت طالب علم أو عالم من كتابٍ للإمامِ الشوكاني، وباتَ عَلمًا ومعْلمًا من معالمِ اليمن الكبير، تناولتْه الدراسات العلمية في الشرقِ والغرب.. تنقبُ عن فكره المتحرر، وروحه الثائرة، وآراؤه المشرقة في حقولِ المعرفة!
في ليلة الأربعاء 27من جمادى الآخرة سنة 1250هـ / 1834م بصنعاء العامرة.. عن 76 سنة؛ توفي الإمام الشوكاني طيَّبَ الله ثراه!
* كان من ابرز تلامذته ومريديه المعاصرين له فضيلة القاضي العلامة محمد بن علي العمراني ، وهو جد سماحة مفتي اليمن الراحل فضيلة القاضي العلامة محمد بن اسماعيل العمراني رحمه الله و اشتهر حفيده بتأثرة بالشوكاني منهجا وعقيده وسمى العلامة العمراني بشوكاني عصره او الشوكاني الصغير.
*دبلوماسي وسفير في الخارجية اليمنية