راعني كثيراً ما أورده تقرير نُشر مؤخراً في مواقع إليكترونية خارجية عن عرض آثار يمنية للبيع في مزادات أوروبية، وهي من الآثار التي نُهبت من اليمن خلال الحرب الأخيرة، والمستمرة حتى اللحظة!
التقرير نفسه أشار إلى أنه عدا سرقة الآثار، فقد نُهبت أحجار وأشجار وأطيار نادرة من اليمن، كما حدث في سقطرى على أيدي عصابات إماراتية تنتمي إلى جهاز الدولة الخليجية الرسمي!.. وأنه لم يخلُ الأمر من تبديد وتدمير للثروة التاريخية في عديد من الحالات!
وكان الصديق الأديب علي المُقري نبَّه إلى مزاد أُقيم في المانيا يوم 12 يوليو الماضي، عُرضت فيه قطع أثرية يمنية نفيسة للغاية، مُنوّهاً بأن هذه ليست المرة الأولى - ولن تكون الأخيرة - التي تُعرض فيها آثار يمنية في مزادات علنية في أوروبا ومناطق مختلفة من العالم!
لقد جاء التحالف السعودي - الإماراتي إلى اليمن لتحقيق أغراض دنيئة شتى، كما كان عدوان هذا التحالف يتجاوز أهدافه المُعلنة في الميديا إلى أهداف تمتد في العُمق التاريخي والجغرافي لليمن، الذي تسعى تلك الدول إلى تدميره أو تبديله، فمن أكثر الأمور إزعاجاً لحُكّام تلك الدول: تاريخ اليمن وجغرافيتها، إلى جانب تعدادها السكاني الكبير بالطبع.
وكانت مجموعة من شبيبة عدن تصدَّت لعصابة من اللصوص في المدينة -خلال الحرب في صيف العام 2015- إثر قيامها بنهب عدد من القطع الأثرية كانت مودعة في متاحف المدينة، وتمكنت من استعادة 129 قطعة أثرية قامت بتسليمها إلى المؤسسات المختصة.
وخلال الحرب -التي لا زالت مندلعة في أجزاء من البلاد إلى اليوم - نُهبت متاحف ومواقع أثرية بأكملها.
ولم يُحصر حجم هذه الأضرار أو تُقدَّر قيمتها التاريخية النفيسة ولو بصورة تقريبية حتى هذه اللحظة.
وتؤكد تقارير صدرت مؤخراً أن عدوان التحالف الخليجي ضد اليمن أباد أو بدَّد أو نهب أو هرَّب ما يتجاوز 80 % من آثار البلاد، منذ ربيع العام 2015 حتى ربيع العام الجاري.
فقد أحال هؤلاء البرابرة الربيع إلى خريف في كل أصعدة الحياة في اليمن، وبضمنها الآثار!
وتعاني اليمن من ظاهرة نهب وتبديد وتهريب الآثار، منذ زمن بعيد.
لكن هذه الظاهرة تنشط ويتسع نطاقها في فترات الحروب والقلاقل التي تضعف فيها -أو تنعدم- سطوة الدولة وفاعلية المؤسسات المختصة والأجهزة المعنية.
وهو المشهد الذي عاشته دول أخرى في ظروف مشابهة، كالعراق ومصر وايران، التي لا زالت أجهزتها الرسمية تُطارد ناهبي ومُهرّبي آثارها حتى هذه اللحظة في الولايات المتحدة ودول أوروبية عديدة، عبر اليونيسكو والإنتربول.
غير أنه مما يُؤسف له كثيراً أن نهب وتهريب الآثار في هذا البلد لم يعد تجارة محدودة النطاق والأطراف، بعد أن دخل إلى مضمارها -ومن أوسع الأبواب- نافذون كبار في جهاز الدولة ومؤسساتها السيادية: السياسية والعسكرية والأمنية، فصدق المثل العاميّ الشهير "حاميها حراميها"!
وقد كشفت الحرب الأخيرة عدداً من الوقائع، التي ازدحمت بالعديد من الأسماء والتفاصيل الباعثة على القلق الشديد، مما يحدث لثروتنا التاريخية من تجريف كاسح وتصريف غاشم.
وفي زاوية أخرى من المشهد، تشهد مدينة صنعاء التاريخية وعدد من المدن والقرى اليمنية القديمة، منذ فترة طويلة، حالة هيستيرية أصابت الأهالي بالبحث المهووس عن كنوز قديمة محتملة في مواقع أثرية وتحت مبانٍ يعود تاريخها الى مئات السنين، حيث يتم حفر أنفاق تحت هذه المواقع والمباني بحثاً عن تلك الكنوز. وقد ظهرت هذه الهيستيريا إثر تهدُّم مبانٍ قديمة وإعادة حفر أساساتها بغرض تشييد مبانٍ جديدة على أنقاضها، فظهرت بمحض الصدفة كنوز نفيسة جنى أصحابها ثروات ضخمة من بيعها لتجار الآثار الذين اعتادوا التعامل مع شخصيات وجهات تقيم خارج البلاد، وتتعاطى تجارة الآثار اليمنية منذ زمن بعيد.
وقد نشرت الصحافة اليمنية، في وقت سابق، معلومات عن ظهور مجموعة من الكنوز القديمة في أحد المواقع الأثرية بمحافظة المحويت.. ومثلها في مدن ومناطق يمنية أخرى.. ولم يُعرف المصير الذي آلت إليه هذه الكنوز، برغم ورود أخبار عن تقاسمها من قِبل أطراف نافذة في البلاد، وبضمنها عدد من أمراء الحرب الذين ظهروا كفئة جديدة في الحرب الأخيرة، وأثروا ثراءً فاحشاً من الاتجار غير المشروع في الوقود والغذاء والدواء والعقار والآثار.
غير أن مصير المواقع الأثرية في البلاد لم ينحصر في نهبها وتهريب محتوياتها، بل شهدت هذه المواقع تجريفاً من شاكلة العبث بها، وتدمير بيئتها من خلال البناء عليها، مثلما يحدث في الوقت الحالي في صهاريج عدن التاريخية.
والمريب -بل المخيف- أن تجارة الآثار لم تعد تحتجب تحت ستار السريَّة، خوفاً من الوقوع تحت طائلة القانون الذي يُجرِّمها بصريح النص، إنما غدت تُزاوَل جهاراً نهاراً، دون خشية من رقيب أو رادع، بل إن الأمر بلغ حدَّ العلانية، إذْ صارت الآثار تُعرض تحت الشمس في الدكاكين، حتى إن ثمة منافذ بيع وشراء للآثار صارت معروفة للقاصي والداني عبر صفحات ومجموعات منتشرة في وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها من أشكال الميديا.
إن هذه الجريمة يجب أن توضع - في المنظومة التشريعية - في مصاف الخيانة العظمى لفداحة ما تقترفه من أضرار بالغة الجسامة بحق الدولة والمجتمع والأجيال الممتدة بلا نهاية.. فحضارة البلد وتاريخه وتراثه تتجاوز صفة الملكية العامة إلى الملكية الشعبية، فهي ليست منوطة بحكومات ومؤسسات رسمية وإنما بمجموع الشعب على هذه الأرض منذ الأزل وإلى الأبد .
* نقلا عن موقع قناة بلقيس