لكأن التاريخ يعيد نفسه بذات الأوجه المستعارة، وذات الدوافع الخفية والمعلنة، وبذات القوى التي اشتغلت على الكيد السياسي، وجر الوطن إلى مآزق حقيقية تمكن القوى المرتهنة للخارج من أن يكون لها حضورها ومجالها الحيوي، رغبة في الإجهاز على الآخر الشريك في النضال الوطني، والذي قدم من التضحيات والانتصار للوحدة والديمقراطية والانتماء الوطني ما عجز عنه الآخرون الذين يضمرون له شراً بدعاوى كيدية، ومع ذلك لم ينجر ولم يتخلّ عن معركة الوطن المصيرية، ولم يكترث لقوى أرادته مهزوماً بما لديه من ثقل جماهيري كبير ومواقف شجاعة لا تحتاج إلى تفصيل.
اليوم ما يجري في شبوة وأبين كان قد جرى في عمران و ما بعد عمران، حتى الإجهاز على الشرعية وتجريدها من حضورها الجغراسياسي وبتوافق بين مكونات سياسية وتحالفات خارجية، ليفسح الطريق إلى صنعاء للانقلابيين الحوثة وصولاً إلى عدن. بسيناريو أعد مسبقاً غايته القضاء على القوى النضالية.
الأمر إذاً أننا أمام مواجهات متعددة وتحالفات تستهدف المصيري في الانتماء الوطني، وتمنح المليشيات ما يجعلها قادرة على إنجاز الاستبداد وغرس مخالبها في عمق الثورة اليمنية. ولولا رجال آمنوا بالله وبالوطن معززاً مكرماً وقدموا ومازالوا تضحيات جسام في هذا المنحى، لكان الأمر قد استتب للانقلابيين وانهزم الجمهوريين وألحقوا بالوطن أقسى الهزائم وأكثرها فداحة في التاريخ اليمني.
وإذاً ما جرى من مؤامرات أوصلت مليشيات الحوثي إلى مواقع مكنتهم فيها من سلطة الأمر الواقع، هم من يفاوضون وينوبون وطناً في تحديد ما يريدون وما لايريدون. يجري ذات السيناريو في شبوة وأبين بذات القوى اللامنتمية والتي تشتغل على المكر والخديعة والارتهان للخارج.
الأمر يتكرر وكأننا نعيد شريطاً سينمائياً من الأحداث مع فارق الجغرافيا. ففي شبوة وأبين تتجهز القوى الانقلابية لبسط نفوذها ويجري إعدادها لمرحلة تجزئة وطن، وتعميق جراحات، وخلخلة النسيج الاجتماعي وبذات المبررات التي حدثت مع الانقلابيين الحوثيين. هذا التناغم وهذا التعاضد وتسخير الإمكانيات لقوى ظلامية، هو رهان على بقاء اليمن يعيش الويلات ونزيف دم لايكف، وإبقاء فعل المؤامرة الممنهجة هو الفاعل في الساحة وتحت مبرر إزاحة القوى النضالية التي قاومت وتقاوم الانقلابيين الحوثيين وتقاوم الانقلاب الآخر في جنوب الوطن اليمني، ممن ارتهنوا إلى الخارج ووجدوا من الدعم والسخاء والتمكين ماجعلهم أصحاب نفوذ أوصلهم إلى سدة المشاركة في الدولة، بكل شروخاتهم العميقة التي جعلتهم نماذج هزيلة في اللاانتماء. ومع ذلك تلقى من الدعم والإسناد ما يعقر وطناً يريده جبهات ومحاور متعددة وانقسامات ومناورات ومحاورات، جميعها تؤدي إلى إبقاء اليمن في حالة موت سريري، وباسم القضاء على القوى السياسية التي تقاوم المشروع الفارسي وغير الفارسي ببسالة وروح انتماء تشهد لها مأرب وجبهات العزة والكرامة، وهي تقف سداً منيعاً في وجه الظلاميين. والحقيقة المُرّة أن المسألة لاتتعلق بهذا التنظيم أو تلك القوى الوطنية، قدرما هو الأمر يستهدف اليمن في موقعه الجغرافي، وموارده الاقتصادية، وثرواته المخزونة في باطن الأرض، وكشعب له قوة الشكيمة إذا مافلت من حبل المؤامرة الكبير.
ليس المقصود في هذا السيناريو، الذي يكرر نفسه مرات ومرات تنظيماً أو قوى وطنية أو مكوناً يؤمن بالديمقراطية والتعددية السياسية والتعايش المجتمعي، قدر ما هو استهداف للإنسان والأرض والمستقبل.. لاعجب إذاً أن نجد القوى التي ناصرت وآزرت وتحالفت ودعمت الحوثية وبمبررات كاذبة، هي ذاتها التي تقف مناصرة ومؤازرة وداعمة للانتقالي كمليشيا انقلابية.
لقد قدم الأشقاء للأسف الشديد تجربة مريرة انتقلوا بها من التجربة الإيرانية في صناعة المليشيات في سوريا ولبنان والعراق واليمن، إلى حاضرنا. ففي الوقت التي صنعت طهران الانقلابيين الحوثيين ووجدوا من الدعم والمؤازرة ما أوصلهم إلى سلطة أمر واقع. في ذات الوقت صنع الأشقاء مليشيا أخرى انقلابية هي الانتقالي الذي ارتهن جملة وتفصيلاً للخارج، حتى أنه غيّب البعد الوطني وإن تذرع بالاستقلال ودولة الجنوب فما ذلك إلا غطاءً لمواصلة المخطط الجهنمي في تشظي اليمن بغطاء من الأشقاء.
في كل الأحوال تمضي المؤامرة باحترافية عالية في القضاء على الشرعية والوصول بها إلى حالة اختناق، لتنمو اتجاهات مليشاوية يستطيع من خلالها الطامعون الاستيلاء والتمكن من الوطن وتنفيذ مايسعون إليه من بسط نفوذ وهيمنة على المنافذ البرية والبحرية والجوية والسيطرة على الجزر والموانئ وخلق صراعات وحروب داخلية لسنوات قادمة.. في المقابل يتسيد الخارج على الأرض اليمنية وتتمكن دول من احتلال الوطن عبر أذرعها المليشاوية في الشمال والجنوب ولكن ليس قبل القضاء المبرم على الشرعية، لعل استجلاب مجلس الثمانية في مقابل الحوثة، هو كمن يفك صاعق قنبلة على الشرعية لينهيها وما تبقى تفاصيل لا يكترث لها. وستُؤتي أُكلها في لاحق الوقت، حيث السيطرة التامة على مقدرات وطن، إنجاز مليشاوي بدعم خارجي وبذات المبررات والأوجه المستعارة، وبذات القوى التي تكيد للقوى الوطنية وتتخذ من محاربتها مبرراً لهزيمة حياة ووطن، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).