للسعودية تاريخ طويل في احتضان الديكتاتوريات والزعماء المستبدين في المنطقة، وربّما تتجاوز هذا الدور إلى ما هو أبعد من ذلك مع توجّه الرئيس السيرلانكي، غوتابايا اجاباكسا، الفار من احتجاجات شعبية في بلاده إلى أراضيها.
وفّرت المملكة طائرة خاصة للرئيس غوتابايا في جزر المالديف، التي وصل إليها متوجها إلى سنغافورة، ومن ثم من المقرر أن تكون وجهته الأخيرة إلى الرياض.
ويأتي هذا التطوّر بعد أيام من اقتحام آلاف المتظاهرين القصر الرئاسي في العاصمة كولومبو، احتجاجا على الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية.
وأعادت هذه الإجراءات إلى الأذهان قصة التاريخ الطويل إلى المملكة في استضافة الزعماء الاستبداديين الفارين من ثورات شعوبهم المقهورة، وكذا استضافتها رؤساء وقيادات بعد انتهاء أدوارهم السياسية، أو محاولاتها توظيفهم لممارسة أدوار تتفق مع أجندتها في المنطقة.
عقب قيام ثورة 26 سبتمبر 19062، ضد النظام الإمامي الكهنوتي في اليمن، فرّ الإمام محمد البدر إلى السعودية، حيث وفّرت له الملاذ والعتاد العسكري لمحاربة الجمهورية الفتية لمدة سبع سنوات.
انتصرت الجمهورية في النهاية، لكن الدسائس والمؤامرات لم تتوقف حتى اليوم، فيما عاش البدر في السعودية ودفن فيها عام 1996، ولا يزال أبناؤه وأحفاد الإمامة المتوكلية يعيشون فيها أيضا.
وما بين ذلك التاريخ في ستينات القرن الماضي وحتى سنوات "الربيع العربي"، المغدور من قِبل المملكة خلال السنوات الأخيرة، ثمة قصص أخرى لزعماء وقيادات سياسية عديدة.
منتصف يناير 2011م، كانت لحظة فارقة في تاريخ المنطقة العربية عندما صرخ أحد ثوار تونس "يا توانسة معدش خوف.. بن علي هرب"، مؤذنا بانتصار الثورة وهروب الرئيس التونسي.
أجبر الثوار الرئيس زين العابدين بن علي - الذي كان يحكم البلاد بقبضة حديدية طيلة 23 سنة- على التنحي عن السلطة والهروب من البلاد خلسة، حيث توجّه أولا إلى فرنسا، فرفضت استقباله خشية حدوث مظاهرات للتونسيين فيها.
أكدت مصادر إعلامية مختلفة أن عديد مطارات رفضت أيضا استقباله، خوفا من التبعات وتدوين التاريخ.
غير أنه وجد في السعودية ملاذا آمنا ومرحبا بقدومه مع أسرته، حيث استقر فيها حتى وفاته خلال العام 2019 عن عمر يناهز 83 عاما.
دعم السيسي
في مصر، وأثناء احتجاجات غير مسبوقة ضد الرئيس محمد حسني مبارك للمطالبة بتنحيه ومحاكمته خلال العام 2011م، وبينما كانت أركان حكمه تتهاوى، عرضت السعودية عليه استضافته، لكنه رفض دعوتها، وتمسك بالبقاء فى أرض مصر.
ثم عادت وجددت عرضها بعد أن تنحى لتلقي العلاج على أرضها، ولكنه جدد رفضه للعرض.
فشلت المملكة في إنقاذ نظام مبارك من الانهيار بسبب مفاجأة الثورة، وزخمها المتطور بشكل متسارع.
لكن عندما تهيأت ونضجت فرصة الثورة المضادة بقيادة عبد المفتاح السيسي، ظهر الملك عبد الله في خطاب إعلامي، معلنا دعمه للتطورات الجديدة.
وأكد دعم المملكة شعبا وحكومة ضد ما اعتبره الإرهاب والضلال والفتنة. وهكذا مضت سياستها في بقية التطوّرات اللاحقة.
بالمثل، قدّمت السعودية طائرة إخلاء طبي خاصة للرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في مايو 2011م، إثر إصابته بتفجير دار الرئاسة.
حدث ذلك، بينما كانت العاصمة صنعاء تشهد ثورة شبابية شعبية واسعة ضد نظام حكمه، وكادت أن تجبره على التنحي، لولا تدخلات السعودية وتدبيرها ما عُرف بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.
رممت السعودية جروح صالح، ورعت نقل السلطة إلى خلفه عبد ربه منصور هادي، لكن صالح عاد إلى البلد في وقت لاحق وقاد مع الحوثيين انقلابا شاملا على الجمهورية.
تواطأ صالح مع الحوثيين وهادي للغدر بالجمهورية برعاية المملكة التي فتحت أبوابها لخلفه هادي المطرود من العاصمة صنعاء، وقادت حربا مدمّرة ومستمرة في بلد منهك بتدخلاتها العسكرية المباشرة.
لا يزال الرئيس هادي يقيم تحت رحمة وعطف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وسط أنباء عن فرض الإقامة الجبرية على حياته منذ إجباره على نقل صلاحياته إلى مجلس رئاسي مكوّن من 8 أشخاص برئاسة اللواء محمد رشاد العليمي.
أما صالح فقد ذهب ضحية مؤامراته وتكتيكاته مع الحوثيين في مواجهة مسلحة محدودة بالعاصمة صنعاء، انتهت بمقتله في ديسمبر 2017.
سقوط صنعاء
القائد العسكري اللواء علي محسن الأحمر كاد أن يكون هدفا ثمينا للحوثيين في مؤامرة إسقاط العاصمة صنعاء خلال سبتمبر 2014م، لكن قصة هروبه كانت أيضا سعودية بامتياز.
وكشف السفير السعودي، محمد آل الجابر، في حديث إعلامي سابق، تفاصيل اللحظات الأخيرة قبيل مغادرة اللواء محسن صنعاء، مؤكدا أن المملكة وفّرت له الترتيبات اللازمة في السفارة قبل إعداد طائرة خاصة لنقله إلى جيزان.
أهم ما ذكره السفير السعودي أنه تلقى اتصالا من محسن يخبره بأنه قادم إليه، والذي بموجبه أمر الحراسة بإدخاله دون تفتيش، حيث تفاجأ بوصوله مع مرافقيه ومدرعاته، طالبا منه الحماية والقول إنه "بوجه الملك عبدالله".
لا يزال اللواء علي محسن يعيش في الرياض مع عدد من قيادات الدولة العسكرية والسياسية، ومن الواضح أن إقامتهم سوف تطول مع مراوحة البلاد في مرحلة من اللا سلم واللا حرب.
ديكتاتور سوريا بشار الأسد كان من المؤكد أن يكون أحد عروض المملكة في الاستضافة لو نجحت الثورة ضد نظام حكمه، ولم تدخل في معمعات التدخلات الخارجية ومرحلة القمع الوحشي.
ليس للسعودية خصوم أبديين سوى الثورات. ولن تكون طهران وجهته المفضلة لدى الرياض بدلا عنها. سيتحول إلى صديق كما تحوّلت الثورة السورية إلى عدو منبوذ في نظرها فيما بعد.
ومن المحتمل أن تشهد الأيام المقبلة تطبيعا شاملا بين النظامين الديكتاتوريين بعد سنوات من القطيعة وتباينات الأجندة.
أما في ليبيا، فان عداوة الزعيم الليبي معمر القذافي للسعودية وإهانته المعلنة لسياساتها في مؤتمرات القمة العربية، حالت دون تقديمها عروضات الاستضافة له في أراضيها.
كما أن دمويته البشعة وتاريخه الملطخ بالدم والعداوة للغرب، شكل إجماعا دوليا لطي صفحته.
وإلى ذلك، تطورات الثورة الليبية السريعة وملاحقة الثوار للقذافي في البلدات، التي فرّ إليها حتى القضاء عليه، لم تمهل السعودية كثيرا في تقديم خدماتها المعتادة للمستبدين.
وكالعادة، سياساتها اللاحقة سارت أيضا في النهج المعادي للثورات ذاته بدعم قوات اللواء خليفة حفتر.
من الواضح أن السعودية أضحت حاضنة للديكتاتوريات وزعماء الاستبداد، كما تشكّل محطة للعديد من السياسيين بعد انتهاء أدوارهم أو لمحاولات لعب أدوار جديدة من خارج الحدود.
لا تزال القائمة مليئة برؤساء دول وحكومات وسياسيين احتضنتهم المملكة، كما فشلت في توجيه البعض منهم مثلما حدث مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الذي هاجمته صحافتها مؤخرا بتهم التشيّع السياسي، والتفريط في مصالح الطائفة السنية في لبنان، والتنكر لفضائل الرياض.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك