بداية حتى نكون أقرب للمنطق في أي تحليل سياسي للمشهد اليمني بعد أكثر من سبع سنوات من حرب اليمن لابد من ان يطلع ألمراء على خارطة الصراع على الأرض وحجم كل القوى الحقيقي ومدى السيطرة ديموغرافيا وعلى مستوى الجغرافيا السياسية.
يسيطر الحوثيون على أغلب مساحات بعض المحافظات، منها الحديدة الساحلية الإستراتيجية غربي البلاد، التي تملك أهم ميناء في اليمن يمر منه نحو 70 بالمائة من الواردات والمساعدات الواصلة للبلاد.
وتسيطر القوات الحكومية على بعض مديريات المحافظة على الساحل الغربي لليمن مثل الخوخة وحيس ومناطق في مديريات أخرى.
أما محافظة الجوف (شمال شرق) التي ترتبط بحدود برية مع السعودية، فالحوثيون يسيطرون على معظم المديريات، بما في ذلك عاصمة المحافظة (مدينة الحزم)، فيما تسيطر القوات الحكومية على مناطق فيها، بعضها قريبة من مركز المحافظة.
لم تول جماعة الحوثي مسألة الهوية الوطنية الجامعة اهتماما خاصا في السابق، ولكنها اكتشفت مكانتها في ظل التطورات الأخيرة، فصارت تلعب هذه الورقة وسط الفوضى والفراغ. ولأن مساحة الفوضى والفراغ في اليمن اتسعت، صار لجماعة الحوثي مكانة تفوق حجمها بمرات عديدة، وأدت هذه الحالة المتضخمة للجماعة الصغيرة إلى حالة فوضى عبثية طالت كل مكان باليمن.
في سلوكه، حاول الحوثي تتبع خطى الثورة الإيرانية الإسلامية وتصور أنه بإمكانه في البداية استخدام الآخرين، من رئيس ورئيس حكومة وأحزاب، كواجهة حتى يشكل نظامه الديني - السياسي.
حكم أقلية مستبدة لأكثرية أمر ممكن في حالة توفر سيولة مادية وثروة تؤسس لدولة الريع السياسي، لذا لا مجال لحكم الحوثيين على اليمن، ولاسيما أنّ منطق الغلبة الخالص لم ينجح قبل ألف عام. فهو من باب أولى لن ينجح الآن بعد كل هذه الانتفاضات الشعبية والثورات ضد الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي كان يحكم بمنطق الغلبة والمناورة والمرونة والدهاء، بينما لا يمارس الحوثي سوى القوة المفرطة مستخدماً الكثير من سياسات الإذلال والفزع، لعل أشهرها تفجير مساجد ومنازل خصومه أمام كاميرات التلفزيون كحدث يحتفي به في سياسة بث الرعب والفزع.
الفراغ الدستوري ليس أسوأ ما تواجهه اليمن، بل شبح التفكك مع سقوط الدولة وسيطرة ميليشيا على العاصمة، وهذا أسفر عنه تحرك الأقاليم.
بداهة يتضح للمراقب والقارئ اللبيب بأن الموقف الرسمي لجماعة الحوثيين من الوحدة برجماتي فهم رغم جبروتهم لن يفرضوها بقوة السلاح بدليل ان قوات الميلشيا المتحالفة مع بقايا الدولة العميقة في الحدود الشطرية رغم قدرتهم على التوسع.
يعتقد الحوثيين بان سيطرتهم على شمال اليمن سيكون أسهل لاستمرارهم لان نسبة كبيرة من سكان تلك المحافظات يعتقد انها حاضنة لفكرهم الطائفي السلالي وهذا ليس صحيحا فأكثر خصوم الحوثيين هم من هذه المناطق، بل وحتى من عقر دارهم في صعدة.
الموقف الإعلامي الشكل للحركة الحوثية يختلف كليا عن السلوك السياسي وتحركهم العسكري الذي يوحي بانطباع سائد بأن حكمهم لشمال اليمن هو امتداد لدولة الأئمة.
يستلهم الحوثيين مراوغتهم من دهاء الراعي الأساسي الإقليمي في إيران سوى بالتأثر الإعلامي في موقفهم الرسمي المعلن من الوحدة وكذلك في الجانب السياسي والتحرك العسكري الذي فرضهم كفاعل أساسي خلال حقبة الحرب، فالحليف الإيراني الأعجمي يختلف عن حليف الشرعية الإقليميين وهم طرفي التحالف، فليست فقط إيران من خطط لسقوط صنعاء، بل تواطئ عربي أيضا قد سهل سقوط صنعاء بيد الحركة الحوثية.
تتباين رؤية الراي العام في اليمن ازاء مستقبل بلادهم وبالتالي مستقبل الوحدة او الانفصال، وادراك المواطن اليمني بأن الوحدة اليمنية بشكلها الحالي انتهت ولم يعد بالإمكان توقع استمرارها.
بل وان العودة ما قبل عام 1990 ايضا يشوبه الغموض والعراقيل وظروف ذاتية وموضوعية حيث يعتقد اليمنيين بأن اليمن يهرول للمجهول وان التشرذم بدأت ملامحة بحيث ان واقع الحال اليوم هو تناحر اكثر من كيان وان بدت بعضها في حالة توافق مؤقت شكلي كما هو في صيغة شكل الحكم المشكل مؤخرا خارج اليمن لكن شهر العسل قد لا يدوم طويلا وبأن عدن تقع على فوهة بركان سوى بالمفهوم الجولوجي كريتر او المعنى السياسي والاجتماعي ليفرز صراعا يقد يقوق أحداث يناير من العام 1986 عندما تقاتلت القبائل الماركسية.
فبينما يسود انطباع لدى الكثيرون بأن اليمن قد يتجاوز هذه المحنة ويرنو للاستقرار في حين ان السواد الأعظم غدى مسكونا باليأس والقنوط جراء خذلان قيادته وفشل قيادة هادي في الحفاظ على تلاحم المعسكر المواجه للمتمردين الحوثيين وتماهيه مع رغبات الإقليم ونزعات الانفصال ، وبداهة بالإضافة لتأمر الإقليم بحيث غدا الملف اليمني وبالتالي مصيره سوى بطي صفحة الحرب سلما او حسما هو بيد لا عبين إقليميين ودوليين، وفشل قيادة الرئيس المخلوع هادي في الحفاظ على تلاحم المعسكر المعادي للمتمردين الحوثيين، او مواجهة التيار الانفصالي الذي دأب على منع هادي من العودة للداخل.
شخصيا لا اعتقد بأن التطورات الأخيرة الشهر الماضي في رأس السلطة في اليمن والذي رتب له خارج اليمن، بل ومن داخل الدولة التي يرى معظم اليمنيين أنها سبب تفاقم الحرب ان ذلك في مصلحة استقرار اليمن او الحسم العسكري او حتى تسوية عادلة.
رغم ان دولتي التحالف الرئيسيتين قد شنت الحرب في مارس من العام 2015 تحت لافتة استعادة الشرعية وهزيمة الحركة الحوثية ولان العبرة بالخواتم فان الراصد ليوميات الحرب خلال السبع سنوات الماضية لا يلمس أي فائدة لليمن والمواطن سوى في قوته او استقرار بلده وبالتالي مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة.
لم يعد كثير من اليمنيين يعولون على نظام سياسي مستقر ينتعش فيه اقتصادهم المنهار وهم الغالبية هو توفير أساسيات الحياة اليومية من توفير خدمات الكهرباء والصحة والتعليم والموصلات وخلافه إلى جانب قوتهم الضروري.
لسنا هنا بصدد ذكر محاسن الوحدة ان استمرت فكيفي ان الوحدة كان يمكن ان تؤسس لنظام ديموقراطي قائم على التعددية الحزبية، يكون فيه تبادل سلمي للسلطة وحرّيات من كلّ نوع، خصوصا في مجال الاعلام. لكنّ كلّ ذلك بات من الماضي، كذلك احتمال قيام لامركزية موسّعة تسمح لكلّ مكوّن من مكوّنات اليمن التعبير عن نفسه بحريّة.
لم يعد واردا حكم اليمن من "المركز"، اي من صنعاء لهذا كانت دعوات الحوار السياسي لابتكار نوع جديد من النظام الفدرالي بخصوصية يمنية أقاليم تتمتع بحكم شبه ذاتي، لكن الأهم هو تجنب الانزلاق لمزيداً من الفوضى وبالتالي التشرذم على النحو الذي يخطط له.
وسوى انتهت الحرب بطريقة سلمية تفاوضية او حسم عسكري وهذا مستبعد حاليا على الأقل فأن الأمر الواقع على خارطة المشهد السياسي والعسكري في اليمن يوحي بأن طريق السلام لازال بعيدا فنهاية الحرب لا يعني بالضرورة ان يعم السلام، فبداهة أي حرب في التاريخ لها نهاية وليس هناك حرب ابدية الفاعلين السياسيين في المشهد السياسي وان كان يبدو للسذج حرص هذه القيادات المفروضة من خارج الحدود بأنها ستعظ على الوحدة بالنواجذ.
هناك ثلاث تيارات تهرول للمجهول على خارطة الجغرافيا السياسية التي عمليا هي الآن أكثر من كيان أبرزها حركة الحوثي والتي تسيطر على مناطق ذات كثافة سكانية والحراك الانتقالي الذي غدى فاعلا سياسيا فيما يسمى بالشرعية والتأثير على مستقبل اليمن من داخل النظام السياسي واخيرا بقايا الشرعية التي ورثت حقبة هادي والذي شرعيته هو الآخر موضع تساؤل منذ انتهاء مدته الدستورية قبل سنوات.
*كاتب يمني وسفير في الخارجية.
*مقال خاص بالموقع بوست.