في محطات التاريخ المفصلية ولحظات التحول والبروز يصبح المتصدرون الأوائل في المقدمة، فهم من أخذ على عاتقهم عبء البدايات، وتحملوا المشقات لحظة وقوع الصدمة الكبيرة، فصمدوا وقدموا التضحيات، في الوقت الذي اختفى فيه الكثير.
لكن في اليمن يبدو الأمر مختلفا، فمن كانوا في طليعة النضال، واستهدفوا منذ اللحظة الأولى، وصمدوا، ووقفوا بثبات أمام كل مشاريع الفوضى والحرب والمؤامرات أصبحوا اليوم في ذيل القائمة، بل متهمين أيضا بالعجز، والفشل.
ومن كانوا في العدم، أو في الضفة الأخرى كسبب من أسباب الصراع والحرب وإسالة الدماء صاروا اليوم في صدارة المشهد، وتحولوا لأبطال وفاتحين.
معادلة هزلية تحدث عندما يكون من يهندسها ويصنعها ويقف ورائها أشباه رجال، وأصحاب مشاريع تدميرية، ولا يقرؤون الواقع، وتسيطر عليهم وتحيط بهم مجموعة من المنتفعين والانتهازيين والمتسلقين.
يتضح هذا النموذج من قراءة سريعة لأعضاء مجلس القيادة المزعوم والمصنوع في الرياض، ومن جملة الوجوه التي كان لها دورا بارزا طوال المرحلة الماضية منذ 2012 حتى اليوم، وهم أسماء كثيرة، لعل أبرزها أخيرا عبدربه منصور هادي، وعلي محسن الأحمر.
نقول هذا الكلام عن شخصيتين ظللنا طوال بقائهم في الحكم ننقدهم، ونرفع أصواتنا في وجوههم مع كل خطأ أو تقصير، ومع ذلك كانوا شواهد على فترة خطيرة في اليمن، وخاضوا صراعا مريرا مع قوى محلية سعت للإجهاض عليهم مبكرا لمعرفتهم بدورها وتأثيرها، وبقائها في الصدارة داخل اليمن، ثم واصلوا التآمر عليهم وهم يحكمون من خارج اليمن.
لا قداسة لأشخاص، وبوابة الحكم سيخرج منها من دخلها، ذلك أمرا منتهى منه، ولكن ما جرى هو نوع من أكثر المهازل في التاريخ، ومن أسوا محطات اليمن، ذلك أن ما حصل ينسف كل مبادئ وقيم السياسة والأخلاق والوطنية، ويعمق الارتهان، ويجعل من الولاء الخارجي معيارا للتعامل، وليس معيار الانتماء للوطن.
كان هناك أخطاء للرجلين، وبالفعل يتحملون جزء كبير مما يحصل، ولكنهم في الوقت ذاته كانوا ضحايا ذات النظام والقيادة التي رمت بهم خارجا، وجلبت آخرين ليحلوا محلهم، وذلك هو سلوك الرياض المتوقع، عندما تسعى لغسل هزيمتها في تحميل الآخرين وزر ما صنعته يدها، وما ارتكبته قيادتها.
إنه نموذج يعكس حالة الجنون والطيش والسفه للقيادة السعودية، فعلت ذلك مع رئيس الوزراء اللبناني السابق عندما احتجز في الرياض، وتدخلت فرنسا لإخراجه، ونزعه من غرف الرياض المغلقة، وتفعل ذلك في اليمن لإدراكها أنها تتعامل مع شخصيات ضعيفة مهترئة، فاقدة للأرض، متعطشة للمال، منعدمة الإحساس.
إذا ما استعرضنا نظام سياسي صنعته الرياض وأبوظبي فالمثل واضح في نظام السيسي بمصر، ولكن هذا النظام الذي صعد للحكم بأموال الدولتين لم يرتهن هذا الارتهان المريع للدولتين، وظل محافظا على نفسه من التحكم بأبسط تفاصيل المشهد، كما يحلو للسعودية أن تصنع مع النموذج اليمني.
إننا اليوم ندفع فاتورة العبث السعودي بالمقام الأول منذ إسقاط صنعاء، ولا ينحصر هذا فقط على حجم التدمير للبلد وبنيته التحتية، والبؤس الذي يعانيه اليمنيين اليوم، بل ندفع الثمن فادحا بصورتنا كيمنيين، وبعملية الهدم الجارية لأسس ومبادئ الدولة، ومراجعها القانونية والدستورية، ويجري التشريع والترسيخ لوسائل هدم تمثل آخر رصاصة في جسد اليمن المنهك.
بل يجري اليوم في اليمن شرعنة عمليات متواصلة من هدم الدولة، وتشجيع العنف والقوة ليصبح مصدر الشرعية، وجعل السلاح والمليشيا والتمرد مصدر الشرعية المثالي لأي حركة أو جماعة تسعى للصعود والسيطرة، وتلك وسائل مرفوضة في أي دولة لها أرض وجغرافيا ونظم قانونية، بل إن السعودية ذاتها ترفضها إن حصلت داخل أراضيها.
إن كان من خطأ وقع فيه هادي ومحسن فهو ركونهما للسعودية، واتباعهما لنهجها وأجندتها، وتغاضيهما عن أعمالها وتصرفاتها منذ اليوم الأول، ووضع الثقة فيمن لا يستحقها عواقبه وخيمة، وليس هناك إحساس أكثر من الشعور بقهر الرجال، وطعنة الغدر.
هذا ليس بكاء على اللبن المسكوب، بل رثاء للنفس في المقام الأول، ونحن نشاهد بلد بحجم اليمن يتعرض لكل هذا العبث، في ظل صمت مريع، وصفقات البيع والشراء المشبوهة في سوق سوداء ظلامية، وسلسلة الخيبات التي نعيشها، وحجم التزييف الذي يجري تقديمه اليوم كجرعة أمل سرابية.
إن ما جرى اليوميين الماضيين لا يقود للنصر الأخير الذي تبحث عن الرياض في هذه النهاية المخزية لحربها في اليمن، ولن يأتي لها وهي تسلك هذه الطرقات الملغومة، ومن خلال هؤلاء الأقوام الذين سمنتهم ورعتهم في أرضها طوال الفترة الماضية، بل إنها بما صنعت وفعلت تعيد توجيه أصبعها لصدرها وتذكر اليمنيين والعالم بما ارتكبته بالأمس، حين أنفقت المال والسلاح لدعم الملكيين، ثم انسحبت وتركتهم يصارعون أمرهم، وذهبت لعواصم أخرى بحثا عن مخرج لها.
وإذا كان هناك من رسالة أخيرة، فهي تتعلق بمجمل هذا الانقلاب الأسود الذي صنعته الرياض، ويخص الوجوه الثمانية المختارة، ونقول لهم لقد تعاقب على الحكومة والوزارات وقيادات الجيش والمحافظين منذ 2015 حتى اليوم أضعاف ما حصل منذ 1990م، وذلك لا يعود لفشل من جرى تعيينهم، بل لأن من يعبث بالمشهد هو الطرف الباقي والثابت، حتى نال ذلك التغيير رأس النظام ممثلا بهادي ونائبه محسن.
ولذلك ما دامت المعالجات فوقية ومفروضة خارجيا، بينما الأرض ممزقة لجماعات وكيانات مسلحة، وما دامت مصادر الدخل القومي للبلد معطلة، وما دامت الدولة اليمنية التي تتربعون على عرشها بدون سيادة اقتصادية، فإن مصيركم المنتظر هو مصير أسلافكم، بل سيكون أسوأ، وأنتم تحكمون بهذه الطريقة الجماعية، بما يكتنفها من صراع واستقطاب.