أثار اهتمامي بعض التقارير والتحليلات والكتابات الصحفية ومعظمها لكتاب بارزين قريبين إلى حد ما من وجهة نظر الإمارات والسعودية ومقارباتهما الجيوسياسية لمشاكل وقضايا المنطقة، وتتناول هذه الكتابات بشكل خاص مأزق العلاقة الحالي بين رجلي أبو ظبي والرياض القويين اللذين أمسكا بزمام السلطة، ولم يحتلا بعدُ رسمياً الموقع الأول في قيادة الدولتين.
تذهب بعض هذه التقارير والكتابات إلى حد تسفيه الرئيس الأمريكي جو بايدن وتصفه بالحماقة، والفوضى الذهنية، وبأنه أطرش، لم تقل بعد إنه "نائم" كما يصفه سلفه وخصمه اللدود دونالد ترامب.. كل ذلك لأن بايدن لا يلقي بالاً لخطورة الحوثيين على حلفائه التاريخيين في المنطقة، فيما يمكن أن نسقط التوصيفات نفسها على سلوك قادة هاتين الدولتين الذين أسهموا في بلوغ الحوثيين هذه المكانة العسكرية المهددة لوجودهم؛ جراء انتهاجهم الحرب التي اعتمدوها في بلدنا طيلة هذه السنوات.
لذا فإن أكثر ما يثير الاهتمام في محتوى الكتابات أنها فيما تُغَيِّبُ اليمنَ كدولةٍ وشعب عن المعادلة، فإنها ترى في المواجهة مع جماعة الحوثي أحد المؤشرات الأساسية للحكم على عافية العلاقة بين الإدارة الأمريكية الحالية وبين كل من أبو ظبي والرياض، وإن كانت الحرب ضد الحوثيين تعبر عن مأزق الرياض بصورة أكبر وتكاد بالفعل أن تتحول إلى مأزق وجودي، ومعه ترى الرياض أن إدارة الرئيس بايدن تتخلى عن شراكتها الطويلة الأمد مع السعودية وتعيد ترتيب علاقاتها مع الدور المدمر لإيران في المنطقة.
وللأسف، لا يجري الربط بشكل أخلاقي، في معظم التصريحات الرسمية الصادرة عن البلدين والكتابات المتصلة بأجندتهما، بين جرائم الحوثيين العابرة للحدود وبين المشكلة الجوهرية التي تكمن في سيطرتهم على عاصمة اليمن ومقدرات الدولة، وعلى الكتلة السكانية الأكبر، وهي العوامل التي تكرس من دور الحوثيين وتكاد تحول اليمن إلى منصة منيعة لاستهداف المنطقة.
وفي المقابل يجري الاشتغال في وضح النهار على أجندة ترمي إلى منح السعودية والإمارات صلاحيات مفتوحة للتعامل مع الأزمة والحرب في اليمن، بذريعة مواجهة الحوثي المدعوم من إيران، فيما تبرز الأولويات الميدانية لهذه الحرب المفتوحة في التوجه نحو إعادة إحياء الدولة السابقة "التابعة" التي أسسها صالح تحت أنظار "اللجنة الخاصة" للاستخبارات السعودية، واستحداث أدوات سياسية تتكامل مع هذا المخطط، وهو استثمار مكلف للغاية لأنه يهدم مبنى الثقة الهش أصلاً، القائم بين اليمنيين وهذا التحالف، قيمةً قيمة ولبنةً لبنة.
وهو كذلك يعد بكوارث مشتركة، لأنه يستسهل التآمر على حلفاء أقوياء وشديدي الولاء للتحالف، وحريصين على الدولة اليمنية، ورافضين بقوة للنفوذ الإيراني، ولا يلقي بالاً إلى الكلف الباهظة التي يتكبدها اليمنيون جراء هذا التوجه الفوضوي، ويتكبدها التحالف نفسه كل يوم جراء استفحال العدو المشترك وتنامي قدرته على إيقاع الضرر البالغ في المنشآت الحيوية للدولتين، عبر هجمات عابرة للحدود كان آخرها الهجوم على منشأة تكرير النفط العملاقة جنوب الرياض الجمعة، أخذاً بعين الاعتبار أن منفذ الهجوم ليس بالضرورة هم الحوثيون.
لا نحتاج إلى ذكاء استثنائي لنصل إلى استكشاف هدف الحوثيين أو من قام نيابة عنهم باستهداف المنشأة النفطية جنوب العاصمة السعودية، فالأمر يأخذ أبعاداً إقليميةً ودوليةً، ويرتبط بصورة وثيقة بالصراع في أوكرانيا، وبرغبة الولايات المتحدة في تحييد النفط الروسي، عبر الحصول على تعويض للسوق الدولية من المنتجين العالميين الكبار تتقدمهم السعودية. وهجوم كهذا يرمي إلى التقييد من خيارات السعودية في استخدام سلاح النفط لإعادة ترميم تحالفاتها المتهتكة مع واشنطن والتأثير في السوق الدولية.
لطالما تعامل التحالف باستعلاء مع المعسكر الواسع الذي تحمس لتدخله العسكري في اليمن، مستغلاً الشخصية الموتورة للرئيس الذي هرب مرتين من العاصمة صنعاء ومن العاصمة المؤقتة عدن، وقرر أن يمارس هواياته الرئاسية البائسة من الرياض عبر قرارات تهدم في مبنى الدولة اليمنية وفي عزيمة وبأس اليمنيين؛ أكثر مما تحدث المؤامرات والطائرات والقناصة والمشاريع التخريبية، الطائفية والمناطقية.
والنتيجة أنه يقع في المأزق ذاته الذي يعيشه كرام اليمن من المناضلين والمقاتلين والسياسيين والمفكرين والمهتمين بالشأن العام، والقطاع العريض والواسع من الشعب اليمني، الذي انسد أمامه أفق الحركة بسبب طغيان التحالف وجبروته واستهانته بتضحيات هذا الشعب، وعدم اكتراثه ببؤسهم ومعاناتهم، واستعداده المنفلت لعمل أي شيء يمكن أن يحررهم من مأزق الحصار السياسي والمعنوي الذي تمارسه الإدارة الديمقراطية وتيار اليسار الأمريكي.