سحر الكرة المستديرة أذهل الملايين حول العالم منذ عقود عديدة، ذلك إنها تصنع بالجماهير مالم تصنعه السياسة، ولا البنادق، خاصة مع القوانين الصارمة والضابطة لإيقاع كرة القدم، وضرورة الاحتكام لها، والتقيد بها، وعدم مخالفتها.
لذلك أدركت حكومات عديدة حول العالم أهمية كرة القدم، والسحر والبريق الخاص بها، والتأثير الذي تحدثه شعبيا، فدفعت بكل طاقتها ودعمها للاهتمام بهذا اللون الرياضي، ونوعت الوسائل الرياضية، وشجعت حضورها، وخصصت لها الميزانيات الطائلة.
والرياضة هي الوسيلة المفضلة للسيطرة على الشعوب، سواء أكان ذلك في السلم، أم في عصر الحرب، فالمنافسة، والأجواء التي تخلقها الرياضة، تجعل من الجماهير في حالة هياج دائم، بانتظار النصر، فتتوحد مشاعرها، وتتحد شعاراتها، وتتناسى جراح كثيرة تعانيها في واقع الحياة.
كان الزعيم الاسباني "فرانثيسكو فرانكو" (1892 – 1975) أحد الزعماء العالميين الذين تنبهوا لهذا السحر المتجسد في كرة القدم، ففي منتصف عام 1936 سادت إسبانيا حالة من الفوضى السياسية أعقب فوز ائتلاف اليساريين الجمهوريين بانتخابات شرعية، انتهت بصعودهم لكرسي حكم البلاد، وهو ما لم ترض به القوى اليمينية هناك، وتحركت قوى مدعومة من أصحاب المصلحة كالبرجوازيين والكنيسة من أجل إسقاط هذه الحكومة، وفي ذات التوقيت تحرك الجنرال فرانكو، قائد الفيلق الأفريقي في المغرب نحو إسبانيا، معلنًا نيته في إسقاط الحكومة، وإعادة الملكية التي يؤمن بها، وانضمت إليه كل القوى المستفيدة، وكذلك كل أسلحة الجيش باستثناء البحرية والطيران.
ومنذ اللحظة الأولى عرف فرانكو أن أمامه العديد من المشكلات، لكنه وجد الحل في كرة القدم لاثنين منهما، الأولى هي الأقاليم الانفصالية وخاصة إقليمي كتالونيا والباسك، والثانية كانت حالة من النفور الأوروبي ضد الجنرال الذي رغم عدم مشاركة بلاده في الحرب العالمية، إلا أنه حمل وصمة عار أن يكون صديق هتلر، وحليف الديكتاتور الإيطالي موسوليني، ووجد الجنرال نفسه على كرسي حكم بلد تحاول بعض أجزاؤه التحرر، وبلد معزول أوروبيًا ودوليًا.
سعى فرانكو لاستخدم الرياضة على المستوى المحلي والخارجي، فعلى المستوى المحلي شجع كرة القدم، وجعل للانفصاليين في كتالونيا الذين كانوا يصطفون خلف نادي برشلونة نادي ريال مدريد ندا وخصما رياضيا، وجعل من ريال مدريد وسيلة اختراق للعزل المفروض على البلاد سياسيًا واقتصاديًا، وجسرًا للعبور نحو علاقات طبيعية مع المحيط الأوروبي ووسيلة أيضا لتغيير سمعته، وكان له ما أراد، إذ أصبح الدوري الاسباني واحدا من أكثر الدوريات الرياضية متابعة وحماسا حول العالم، وكان للكلاسيكو الشهير بين ريال مدريد وبرشلونة مذاقا خاصة يحظى بالمتابعة العالمية، واكتسب هذه الأهمية من الواقع الذي نشأ فيه، ومن تحول الرياضة لتصبح انعكاس للمزاج الشعبي.
والحقيقة – كما يقول مؤرخون ورياضيون- فأن فرانكو لم يكن مشجعًا حقيقيًا لكرة القدم، أو مهتمًا باللعبة من الأساس، لكنه أدرك قوتها مبكرًا جدًا، وأدرك أن شعبية تلك الأندية يمكن ببساطة أن تصبح معبرًا عن رغبتها السياسية.
والتجربة اليمنية مليئة بالذكريات الوافرة للأندية اليمنية التي استطاعت تحقيق منجزات على المستوى المحلي، وربطت الشباب اليمنيين حولها، وخلقت منافسات واسعة في كل المحافظات اليمنية، وكان لها تأثيرها الكبير، وحضورها المتميز، رغم ما تعانيه من شحة الإمكانيات، وقلة الاهتمام الرسمي بها.
فالرياضة في حد ذاتها، وسيلة جامعة، وبقدر الاهتمام بها تأتي النتائج، ومتى ما أهملت حلت وسائل أخرى محلها، وبالعادة تكون مدمرة للشباب، وجاذبة لهم إلى دروب هدامة، كالعنف والإرهاب والأفكار المدمرة التي تنعكس على المجتمع، وتجلب له الخراب والنزعات الشيطانية.
ومع حالة الحرب والتمزق التي تعصف باليمنيين منذ سنوات، بدت الرياضة كسحر حقيقي لليمنيين، وتبدى هذا من المشاركات التي شارك بها اليمن، والتي قوبلت بالحفاوة والاهتمام، وأثبتت أن لكرة القدم سحرا يكتسح أحدث الأسلحة، ويتفوق على الجغرافيا والمذاهب والأيديولوجيا.
وأكدت تلك المشاركات أن هؤلاء الرياضيين على الوضع الذي يعانوه قدموا دورا عظيما في توحيد مشاعر اليمنيين، وتمكنوا من محو مختلف الأمراض التي يعاني منها اليمن في الوقت الراهن، وأثبتوا أن الرياضة إن أُحسن استثمارها كفيلة بإذابة أمراض مجتمعية عديدة خاصة المناطقية والمذهبية، وهما من يفتك باليمنيين حاليا.
وتأكد هذا التأثير مع الاحتفاء اليمني الواسع بأول بطولة يحققها اليمن، وأول كأس يحصل عليه، ممثلا بفوز منتخب الناشئين ببطولة غرب آسيا، إذ خرج اليمنيين من منازلهم وفي شتى المحافظات إلى الشوارع رغم الحرب وأمرائها المتعددين، هاتفين بحنجرة واحدة وصوت واحد لمنتخب بلدهم، وكأنهم لم يعيشوا من قبل لحظة فرح واحدة.
إن الرياضة بتأثيرها القوي، هي أحوج ما يحتاج له اليمن في ظرفه الراهن، للتغلب على كثير من المحن القائمة، فقد أثبت سحرها فاعليته تجاه أمراض عديدة توغلت بالبلد، وعجزت البندقية والسياسة عن معالجتها، وذلك السحر حققه فتية محدودين رغم واقع بلدهم المزري، وحالة الحرب التي يعيشونها، وضعف الاهتمام والتنشئة الرياضية المطلوبة.