تقهقُر جديد في صفوف القوات العاملة تحت مظلة تحالف دعم الحكومة اليمنية، المعترف بها دوليًّا، تقف وراءه ألوية العمالقة التابعة للقوات المشتركة المموَّلة إماراتيًّا، التي كانت متمركزة، حتى العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، في عمق عملياتي قدره 110 كلم، يمتد، جنوبًا، من مدينة (ميناء) الحُديدة المشاطئة للبحر الأحمر، حتى منطقة الفازة الساحلية، بمديرية التُّحَيتا؛ حيث انسحبت، فجأة، على طول هذا العمق، وحلَّت محلَّها قوات جماعة الحوثي المدعومة إيرانيا. وجاءت التفسيرات التي ساقتها الأطراف المختلفة للصراع متضاربة، كيفيةً وأبعادًا، ذلك أنَّ جماعة الحوثي قالت إنَّ الانسحاب ناجمٌ عن تفاهماتٍ ليس من المناسب الإفصاح عنها، أمَّا قيادة القوات المشتركة، وقيادة ألوية العمالقة فبرَّرتا ذلك بأنه إعادة تموضع وانتشار للقوات، وفقًا لأحكام اتفاقية استوكهولم، بشأن الحُديدة، لعام 2018، وهذا ما نفَت العِلم به بعثة الأمم المتحدة لدعم هذه الاتفاقية، وفريق الحكومة المشارك في لجنة التنسيق المعنيَّة بالاتفاقية ذاتها.
الملاحظ أن ما ساقته قيادة القوات المشتركة، وقيادة ألوية العمالقة من مبرّرات، إزاء عملية الانسحاب، تتعارض مع أحكام اتفاقية استوكهولم المشار إليها، والتي اشترطت خضوع العمليات التنفيذية لإشراف لجنة تنسيقٍ مشتركة تضم طرفي الصراع، وبعثة الأمم المتحدة لدعم تنفيذ الاتفاقية، وأنْ تُحدَّد، مُسبقًا، المناطق التي ستنسحب قوات الطرفين إليها، فضلًا عن إجراءات أخرى شملتها الاتفاقية، وهذا، كله، لم يجرِ تنفيذه حرفيًّا، بل إنَّ المناطق التي انسحبت منها ألوية العمالقة، احتلها مقاتلو جماعة الحوثي مباشرة.
ثمّة إشارة محدودة في بيان قيادة ألوية العمالقة، سلَّطت الضوء على زاوية معتمة في المشهد، وأبانت ما يمكن أن يُشكِّل دافعًا ذاتيًّا لانسحاب قواتها، أو قبول ذلك إذا ما كان أمر الانسحاب صادرًا عن قيادة التحالف، أو عن الإمارات تحديدًا، وهو الأرجح، بوصفها المموِّل الرئيس لهذه القوات؛ حيث جاء في البيان أنَّ قيادة ألوية العمالقة استشعرت أن بقاءها في الحُديِّدة، في وضعية الدفاع من التماس المباشر، أمام جماعة الحوثي، التي تحقِّق تقدُّماتٍ كبيرة في محافظات البيضاء، وشَبْوة، وأبْيَن، ومأرب؛ استدعى افتتاح جبهات أخرى لاستنزاف قدراتها، والحدِّ من تقدماتها.
قد يكون هذا التبرير مقبولًا، إلى حدٍّ ما، بالنظر إلى عودة القتال بين الجانبين، في منطقة التُّحَيتا؛ حيثما توقفت القوات المنسحبة، وتراجعت وتيرة هجوم مقاتلي جماعة الحوثي في مأرب. وهكذا، يبدو الانسحاب كما لو أنه فخٌّ محكم لاستدراج جماعة الحوثي، ووسيلة لإضعاف موقفها القتالي في مأرب وشبوة، إلى أن تتمكَّن القوات الحكومية، هناك، من إعادة ترتيب صفوفها، والانتقال إلى وضعية الهجوم، فضلًا عن التهيئة السياسية والعسكرية لاستعادة الحُديدة، بعد إسقاط اتفاقية استوكهولم، غير أنَّ هذا الأخير لا يبدو ممكنًا؛ نظرًا إلى وجود عوامل داخلية وخارجية معقدة، تحُول دون حصول ذلك حاليا.
الواقع أنَّ ثمَّة قضايا أعمق، تجعل من التفسيرات السابقة قاصرة عن فهم الأبعاد الاستراتيجية لهذه الانسحابات، والتي تقف خلفها، من دون شكٍّ، الإمارات، بوصفها المموِّل والمحرك الرئيس للقوات المنسحبة، وقوات أخرى تجمعها بها أجندات مشتركة، ولا أدلَّ على ذلك من الدفع الإماراتي المتدرّج للأحداث في محافظة شبوة، والرامي إلى إطاحة محافظها، محمد بن عِديو، الذي يُصرُّ على إخلاء محطة (ميناء) بلحاف الغازية من القوات الإماراتية، ليتسنَّى تصدير الغاز المستخرج من حقول محافظة مأرب، وهذا، بالضرورة، سيضاعف من ثبات خصوم الإمارات، في الحكومة المعترف بها دوليًّا، خصوصًا حزب التجمع اليمني للإصلاح (إسلامي).
لذلك، سحب ألوية العمالقة من الحُديِّدة، والدفع ببعضها إلى شبوة، أو إلى مناطق الاشتباكات بين قوات الحكومة، وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي، في ساحل محافظة أبين، المشاطئ لخليج عدن، مِن شأنه تعظيم فرص الإمارات في فرض إرادتها، وتحقيق أجنداتها السياسية والاقتصادية، سواء أجلَت قواتها من بلحاف، أو أبقت عليها. فهي، كذلك، لا تعتمد على ألوية العمالقة فحسب، بل وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي، فضلًا عن قوات المقاومة الوطنية، التي قد تتيح لها ظروف الحرب المتقلِّبة، التموضع في مأرب، أو شبوة، من خلال المشاركة في القتال أمام جماعة الحوثي، أو دعم موالين لحزب المؤتمر الشعبي العام الذي تصنَّف قوات المقاومة الوطنية ذراعًا مسلحة تابعة له، ويدين معظم قادته وفصائله للإمارات.
* نقلا عن العربي الجديد