إذا الأسبوع قام مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى اليمن السويدى هانس غروندبرغ بزيارة طهران، مدركا أن المفتاح المتحكم بلعبة الحوثى هناك فى إيران.
لم يكن سقف مطالب الرجل إلا فى أدنى التوقعات، فهو يريد فقط خفض حدة العنف، ولم يعد يطالب المجتمع الدولى الغارق فى همومه بوقف فورى وعاجل كما يتوقع الناس، بل حسب موقع الأمم المتحدة (أن السيد غروندبرغ أكّد الحاجة الملحّة إلى خفض التصعيد فى كل أنحاء اليمن بما فى ذلك فى مأرب ).ومأرب هذه تشهد محرقة الآن وليس مجرد مناوشات لكن المبعوث الدولي، يعكس وضعا عالميا يدعو للقلق هو الآخر، كما أنه ورث عن سلفه المبعوث السابق تحديات مؤلمة تزيد من قتامة المشهد لسوء إدارة الملف، مما جعل البلد الذى يعانى صعوبات سابقة عمرها سنوات فى حالة انهيار مقلق على كل المستويات، ضاعف من ذلك غياب تصور لمخرج ملائم لكيفية إعادة بناء الدولة عند مختلف الوسطاء. أما لمن يسأل عن شكل الدولة التى يريد الحوثى ترسيخها فإن مشهدين اثنين حدثا الشهر الماضى يؤكدان شكل مستقبل اليمن فى حال نجح الحوثى بفرض مشروعه.
المشهد الأول تمثل فى يوم السبت 18 سبتمبر 2021 حيث خرجت ميليشيات الحوثى تجر عشرة من أبناء تهامة غرب اليمن بعد تعذيبهم لشهور طويلة، وعمدت على تنفيذ حكم إعدام علنى بتهم يعرف كل اليمن أنها كيدية. وأبرز مافى مشهد الإعدام ذاك كان سحب الميليشيا لفتى قاصر كُسر عموده الفقرى فى أثناء التعذيب ولم تشفع له إصابته القاتلة ولاعمره القاصر وتم قتله مع المجموعة. ثم قيام المشرفين على القتل، بإطلاق صيحات الفرح والرقص حول الجثث ملوحين بخناجرهم اليمنية الأصيلة فى الهواء مرحا بعد تنفيذ عملية إعدام مجنونة، معيدين مشهد الإنسان البدائى الذى لايمكن تخيله. وكانت الميليشيا القابضة على صنعاء ترسل من خلال هذا المشهد رسالة لكل اليمنيين، مفادها أن رقصة الموت ستتكرر مع كل من لا ترضى عنه وإن كان أعزل محبا للسلام. أما المشهد الثانى لشكل اليمن المرتقب فتمثل بمظاهر الاحتفاء بالمولد النبوى الشريف، حيث حرصت ميليشيات الحوثى على جعل المناسبة الدينية فرصة لتكريس تصور لم يعهده اليمن المعروف بشعبه المحافظ والمتدين أصلا، ولكن دون طقوس سياسية عجيبة، حيث أجبر الجميع على ارتداء اللون الأخضر ورفع الرايات الخضراء وصبغت المحال والسيارات بل الأجساد باللون الأخضر، ( وتحت دعوة أن ذلك لون الإسلام ودليل دخول البلد للدين من جديد). وخرج البعض بمبالغة عجيبة بطريقة المسوخ وقد صبغوا أجسادهم باللون الأخضر ، يصرخون بشكل هستيري، مدعين أن ذلك محبة للنبي«صلى الله عليه وسلم»، وتأكيد على ولائهم للحوثي. وتم قياس إيمان الناس ومدى التزامهم بالوطنية وايمانهم أيضا من قبل الجهاز الأمنى للميليشيا من خلال مدى تعليق الناس للرايات الخضر فوق محالهم ولبس الأخضر، ومن لم يفعل ذلك فهو منافق مع العدوان ضد اليمن بل ضد النبي «صلى الله عليه وسلم»،!! وبذلك أنت مقتول مرتين مرة بتهمة الكفر ومرة بتهمة الخيانة، لهذا أجبرت الحشود على الخروج فى إرهاب قل نظيره، وحرصت الجماعة على تصوير المشهد بأكبر قدر من المباهاة، وبزوايا تصوير متعددة تضمن مبالغة الصورة وتأثيرها، كدليل للعالم على القدرة على السيطرة والحشد، ولكن الأهم كدليل أمام نفسها أنها قادرة على إخضاع كل الشعب لمنطق الخرافة، وترويض للجموع لأن تلتزم بطقوس هى خارج العقل وضد المنطق، حتى يكون خضوعا مطلقا. ولذا فُرضت الإتاوات على الجميع شركات وتجارا وأصحاب منازل وموظفين فقراء، ومواطنين معدمين، إتاوات عجيبة كانت أكثر من مجرد ابتزاز مالى إلى ابتزاز سياسى وامتهان كرامة الناس. صار المواطن الذى لا يدفع لا يعارض الحوثى فقط ولكن يعارض النبى « صلى الله عليه وسلم» نفسه!! وإذا فكرت بالرفض يكون التذكير بمشهد الإعدام العلنى ، وتذكيرنا برقصة الموت والفرح العجيب بالدماء المسفوحة!.
لقد دخل اليمن نفقا مظلما، ويزيد من ألم هذا البلد العظيم هذه الفجوة بين معاناته والعالم المشغول عنه بقضايا أخرى، وعدم تفهم محيط مضطرب لمشهد يمنى معقد بحاجة إلى تغيير جذرى فى نظرته للمشكلة اليمنية. وستبقى الخطوة الأساسية لطريق الحل فى اليمن خطوة يمنية بامتياز، تخرج اليمن من مأزقه وتخرج الحوثى من غيبوبته التى يريد أن يجر معها اليمن إلى غياب عجيب. ليس فقط فى عزلة جغرافية وقمع ممنهج ولكن فى غياب للعقل، وبقاء بلد خارج العصر بهذا القرن، هنا ربما علينا إعادة التذكير بنخبة تتمسك بالدولة المدنية، وتنقذ الكل من هذه الغيبوبة المخيفة. نعم غيبوبة تجد من يشجعها بجعل من يتصدر المشهد كل صاحب خطاب متطرف، وذلك حتما لا يمثل اليمن الحضارى ولا الشعب المحب للسلام. الخطوة الأساس التى يجب العودة إليها هى عبر صنع أفق للمشروع الوطنى الجامع، الذى يعيد حلبة الصراع إلى واقع احتياج الشعب، ويكون صراع برامج بناء لامعاول هدم، يتحسس معاناة الناس ويحيى الأمل فى قلوبهم وفق متطلبات الواقع وتطورات العصر ويحترم تنوع اليمن الكبير . ورغم قتامة المشهد إلا أن آفاقا واسعة من الأمل بالخلاص باقية، حيث تبقى الحكمة اليمنية ماثلة وممكنة، وأسس الحل الوطنى ليست مستحيلة لإنقاذ بلد عظيم هو ضحية صراع أكبر منه، وضحية جغرافيا فيها وجها النعمة والنقمة، ولكن سيبقى دوما هناك ضوء نراه قادما فى نهاية النفق، أتمنى ألا يكون ضوء قطار غادر يحشر ما تبقى من الممسكين بالأمل فى نفقه المظلم.
*نقلا عن جريدة الأهرام