تشهد الأزمة اليمنية تعقيدات وتحولات خطيرة، وعجزت الصحافة ومراكز الدراسات والبحوث عن فك تعقيداتها التي استعصت على الفهم، وحيرت السياسيين والجنرالات والعسكريين قبل أن تحير المحللين السياسيين والباحثين، وحيرت حتى مراكز التفكير والبحوث الأجنبية العريقة المتخصصة في دراسة الأزمات والصراعات وفق منهجيات ونظريات حديثة تدرس كل أزمة في العالم وفق سياقاتها الجغرافية والسياسية والتاريخية.
في الحقيقة، تمثل الأزمة اليمنية الحالية امتدادا لعملية تغيير سياسي واجتماعي بطيئة ومشوهة بدأت منذ مطلع ستينيات القرن الماضي ولم تنتهِ بعد، إذ لم يصل اليمن إلى أي حالة من الاستقرار حتى يومنا هذا، لكن الأزمة ازدادت تعقيدا خلال السنوات الأخيرة بسبب بروز تحولات جديدة على صعيد العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، ونشوء تحالفات فوضوية عابرة للقوميات والدول ومخترقة للحدود والثقافات بخلفيات هوياتية طائفية وأيديولوجية، فأصبحت الأزمة اليمنية وعملية التغيير السياسي والاجتماعي في البلاد تنجرف وسط أمواج التيارات والصراعات الإقليمية والدولية صعودا وهبوطا، والآن تكاد أن تتغير الخريطة السياسية والاجتماعية من شرق اليمن إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها بفعل الأمواج الهادرة نتيجة السيولة السياسية التي يشهدها الإقليم.
وفي خضم هذه الفوضى والتدخل الأجنبي غير الأخلاقي في الأزمة اليمنية، وتفرق اليمنيين إلى هويات فرعية صغيرة ومتناحرة تنتمي إلى زمن ما قبل الدولة، تبدو وسائل الإعلام اليمنية، من مقروءة ومسموعة ومرئية، في غاية الرداءة والسطحية في تغطيتها للأزمة، والسطحية تبدو أكثر في العمل الإخباري والتحليلي، خصوصا عبر القنوات الفضائية، بينما تجمع المواقع الإخبارية عبر الإنترنت في عملها بين الانتهازية والسطحية واللهث وراء الشائعات والأكاذيب إلا ما ندر، وانخراط بعضها في الدعاية السوداء ضد أطراف سياسية محددة، وفقا لتعليمات ورغبات مموليها.
سطحية الإعلام اليمني صدرناها أيضا إلى الإعلام الخارجي المهتم بالأزمة اليمنية، إذ يظهر محللون سياسيون يمنيون عبر قنوات إخبارية أجنبية يرددون نفس الكلام والعبارات وكأنه تم تعميمها عليهم جميعا في نصوص مكتوبة، وهي تحليلات أيضا سطحية تتسم بالفوضى في التعبير والمصطلح والمفهوم، دون فهم عميق للأزمة وتدبر في سياقاتها السياسية والاجتماعية وخلفياتها التاريخية وبواعثها الجغرافية ومنطلقات الفاعلين الأجانب ودوافعهم للتأثير في مسار الأزمة والتشويش على الحقائق، وتسترهم على المصالح الخفية والمخاوف المكبوتة إزاء كل سيناريو محتمل حدوثه.
أما ما تسمى مراكز دراسات وبحوث، فما تقدمه لا علاقة له مطلقا بالدراسات والبحوث، وإنتاجها مجرد مقالات كيدية وأكاذيب مدفوعة الأجر، والقائمون عليها مجرد صحفيين مبتدئين لا يعرفون أبجديات البحوث والدراسات، ويعلمون قبل غيرهم أنهم يكذبون مقابل المبالغ المالية الباهظة التي يتلقونها نظير ذلك، والهدف من تلك المراكز التشويش على مراكز البحوث والدراسات الغربية المهتمة بالأزمة اليمنية، لكي تقدم استشارات لحكوماتها مبنية على معلومات مضللة وخاطئة، لتتخذ على ضوئها تلك الحكومات مواقف غير محايدة من الأزمة اليمنية ومن الأطراف الفاعلة فيها.
وبسبب سطحية الصحافة اليمنية ورداءتها، تتوه الحقائق وتغرق وسط كم هائل من الأخبار العابرة والمتفرقة والمعلومات المفككة والمتناقضة التي لا تعطي معرفة ولا تصنع وعيا حقيقيا بطبيعة الأزمة في البلاد، ولكنها تربك العقل وتزحمه بكم هائل من التفاصيل المبعثرة، يصعب على المواطنين فهم تعقيداتها وألغازها وإيجاد الرابط بينها، فتسبب لهم الحيرة، وتجعلهم يحجمون عن محاولة فهمها، ويستمعون إليها بدون أن تؤثر فيهم. أما ما تسمى مراكز بحوث ودراسات، فهي لا تقدم استشارات أو حلولا للمشاكل المعقدة، وإنما نجحت في تقديم نفسها كمجرد فائض من التفاهة التي يصنعها المال السياسي الأجنبي ويحتقرها ممولها قبل أن يحتقرها من يخطئ يوما في قراءة العناوين المصلوبة على واجهتها.
وما ينطبق على الصحافة والإعلام ينطبق أيضا على النخب السياسية والحزبية التي وضعتها الظروف والأقدار في مناصب غير مؤهلة لها ولا تستحقها، ونكاد نكون البلد الوحيد في العالم الذي يتسلق فيه الدراويش والأغبياء سلم السياسة والقيادة في أصعب مراحل البلاد، بينما أصحاب الشهادات العليا في العلوم السياسية يفترشون الأرصفة ويلتحفون السماء ولا يمتلك معظمهم قوت شهر أو أسبوع لأسرهم، وإلا قولوا لنا أين ومن هو المسؤول الكبير والمستشار الذي يستحق بجدارة وصف "العقل الإستراتيجي اليمني"؟!
الخلاصة، المؤسف هو أن الجميع يبدون مستسلمين لهذه الأزمة وتعقيداتها وما يترتب عليها من تفكيك وتدمير وتمزيق للبلاد وكأن ذلك قدر لا فائدة من مقاومته، لأن التيار عنيف وجارف وكاسح وساحق وماحق وكأنه ليس بمقدور أي شخص عاقل أو متزن أن يقف أمامه، وتبدلت الأخلاق والقيم والأعراف والتقاليد الجميلة، وأصبح الموت المتربص الوحيد بالجميع في كل مدينة وشارع وقرية.
أما القادة والسياسيون فقد تحولوا إلى مجرد مسوخ لا شيء يقدرون على فعله، وكل ما يجيدونه هو النفاق والتبدل في الرأي والمواقف والمداهنة واللهث وراء المصالح الخاصة وحنفيات المال السياسي، بينما المواطن البسيط تطحنه رحى الحرب وتنهكه ظروف المعيشة الصعبة وتشكل شخصيته أمواج القهر والجوع والاستكانة، ويقف مذهولا وحيرانا أمام واقع شاذ تتكرس فيه الرداءة والقبح والحرائق وانهيار كل ما هو عريق وجميل، وأصبحت أعمارنا وحياتنا تنكمش بين لظى حرب مستعرة لا ندري متى ستضع أوزارها.