حتى الساعة وأنا أكتب رثاءك ما زلت غير مصدق أن المنية اخذتك من بيننا، ما زلت أتوقع رسالة منك على واتساب، وأنتظر ظهورك مرة أخرى في فيسبوك أو تويتر، أنت الحاضر دائمًا والوفي دوماً، الثابت في شموخ، والمناضل في يقين، كنت ومازلت وستبقى أيقونة كفاح ورمز للصمود والثبات على المبدأ في زمن المتاجرة والمساومة والارتزاق.
"العميد علي محمد السعدي"، احفظوه جيداً، وتذكروه دائمًا، فهو الاسم الأجمل والأطول والأنبل في سفر تكوين الحراك الجنوبي، الذي انطلق في العام 2007، وهو الشخصية الأكثر حضورا والاوفر تقديرا، كان أبرز مؤسسي الحراك، كما كان الاقوى عودا والاصلب عمودا، لم يكن حريصا على المناصب بقدر حرصه على وحدة الصف وجمع كلمة الفرقاء داخل الحراك، وعلى مستوى الجنوب كافة.
اعتقله نظام صالح في العام 2009، وطالت فترة اعتقاله لأكثر من سنة، قضى منها شهورا طويلة في سجن الأمن السياسي بصنعاء، وأودع حينها في زنزانة انفرادية تحت الأرض، وتزامن ذلك مع تضييق الخناق على الصحافة واغلاق عدد من الصحف الاهلية واحالة نحو اربعين صحفيا لنيابة ومحكمة الصحافة، على خلفية تغطية أخبار الحراك الجنوبي الذي كان السعدي أحد أبرز مؤسسيه.
أواخر العام نفسه استدعتنا نيابة الصحافة للتحقيق معنا حول تقارير تتعلق بتغطية الحراك، قال لي وكيل النيابة وهو يضع على مكتبه اعداد من صحيفة (النداء)، ومن ضمنها عدد يتضمن حوارا مقتضبا أجريته مع العميد السعدي: أنت كتبت هذا الكلام من راسك، والسعدي ينفي أن يكون قد قاله، قلت له: صحيح أن السعدي مسجون لديكم منذ فترة لكنه لا يمكن أن ينفي أي كلمة قالها أو يتراجع عنها. سألني: ما الذي يجعلك واثقا لهذه الدرجة؟ أجبته: لأني أعرفه تمام المعرفة، هز رأسه موافقا، وانتقل إلى موضوعات أخرى.
العميد السعدي شخصية استثنائية في كل شيء، يجمع بين صلابة الموقف ودماثة الأخلاق، بين الاعتداد بالنفس والتواضع، ولسنوات طويلة ظل مرجعا للجميع، لا أحد يتجاوزه أو يتجاهله، ضرب أروع الامثلة في الثبات على موقفه ورفض المساومة والمداهنة، وظل مثل الطود شامخا على امتداد مسار الحراك الجنوبي ومسيرة القضية الجنوبية، بصموده أثبت عدالة القضية، وبإخلاصه كشف عورة النظام الحاكم، كما أنه بثباته على المبدأ عرى ادعياء النضال الذين غيروا مواقفهم وتحولوا إلى بيادق تتحرك حسب رغبة الممولين، وفي بياناته وتصريحاته ومقابلاته ومنشوراته النبأ اليقين.
واجه السجن والزنازين كما واجه الزبانية والسجانين بإرادة لا تخضع وعزيمة لا تلين، رغم أن المحنة التي تعرض لها كانت كفيلة بالإجهاز على الثوابت التي يتمسك بها، وكان له العذر لو ضعف أو تراجع، مع ذلك احتفظ بذات المبادئ في السجن كما كان قبل السجن، وكما ظل بعد الخروج من السجن، وفي ذلك تتمايز المواقف ويتميز الصادقون عن الأدعياء الذين تخور قواهم ويغيرون جلودهم كلما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال.
ثبت العميد السعدي على ذات المبدأ والموقف بينما الضغوط تشتد من حوله تارة، والاغراءات تنهال عليه تارة أخرى، ولم يزده ذلك إلا ثباتا واصرارا على السير في الطريق نفسه، بدون تعصب أو عنصرية أو انحياز مناطقي، وهو الذي ينتمي لنفس منطقة رئيس الجمهورية وكان بمقدوره لو أراد أن يحصل على المناصب الرفيعة وهو صاحب المؤهلات والخبرات العسكرية والأمنية والعلاقات الاجتماعية، لكنه فضل البقاء حيث هو في مربع النضال والتضحية، وفي حين اثر البعض البحث عن فتات المناصب وبقايا الامتيازات ظل محتفظا بقناعته ومحافظا على موقفه، مقدما التضحيات الجليلة بنفسه وروحه وأسرته، وهل هناك أغلى من بذل فلذة كبده وابنه الشاب الدكتور جياب شهيدا في سبيل المبادئ، كان ذلك بعد خروجه من السجن، اختار العميد السعدي طريق التضحية رغم صعوبة الخيار، وما ينطوي عليه من خسائر، لكنه ظل مرتاح الضمير وهادئ البال، يواجه أصعب الظروف بالابتسامة الصادقة والكلمة الطيبة، كما كان سريع النكتة حاضر البديهة، مهما كانت الظروف حالكة من حوله.
زرناه منتصف العام 2010 في سجن المنصورة المركزي بعدن، وسألناه عن ظروف حبسه في صنعاء، فقال والابتسامة لا تفارقه: كنت في سجن تحت الأرض، وفي غرف السجن المجاورة كان يوجد حوثيون وعناصر من تنظيم القاعدة، كانوا دائماً يدخلون في عراك واشتباكات وكلهم يهتفون: الله أكبر.. الله أكبر، ابتسم وعلق: يعني مضرابة على الطريقة الإسلامية!
بعدما توسعت القاعدة الشعبية للحراك الجنوبي وظهرت مكونات وتكوينات عديدة بقي العميد علي السعدي صوت الحراك المعبر عن أهدافه وقضيته، حريصا على توحيد الجهود حول الهدف الجامع والقواسم المشتركة بعيدا عن الخلافات والمصالح الشخصية.
رحمة الله على العميد السعدي، اسطورة النضال وصوت الوعي والعقل والتسامح، والعزاء لأهله وذويه واقاربه واصدقائه ورفاق دربه وكل المكلومين برحيله.وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك لمحزونون.