بدأت جماعة الحوثي تهرب إلى الأمام، وتخرج قوة من ضعف لتقول إنها ما زالت حاضرة بالمشهد بقوتها المعهودة، والحقيقة أن الجماعة قبل مجيئ " إيرلو" كانت منسجمة مع حجمها إلى حدٍ ما، وغالباً ما تلعب أدواراً تتماشى وإمكانياتها، وظهر ذلك جلياً في محاولات حفاظها على المناطق التي سيطرت عليها والإكتفاء بمناوشات خفيفة على امتداد الجبهات، مستغلة ضعف الشرعية التي لم تقلق نوم الحوثيين الطويل في الجبهات.
جاء إيرلو إلى صنعاء على وقع تقارير ميدانية لم يجيد قراءتها، أغرته الجغرافيا التي تجثم عليها الجماعة المتمردة، وزاد من نشوته التشتت الذي يعيشه الجانب الحكومي، فاستعجل صنع الانتصار الذي أوكلته إيران بالإشراف عليه وقرر أن يحشد قدرات وطاقات الحوثيين للسيطرة على مأرب "النفطية" أهم معاقل الشرعية، وقد تكون آخر معاقلها بحسب تقدير متابعين.
تعثرت خطى الجواد الفارسي بصحاري سبأ وبعد استنفاده لأنساق متتابعة في أكثر من جبهة محيطة بالمحافظة، وجد نفسه أمام معركة مفتوحة في تعز، وأخرى في حجة، إلى جانب معرفته بأن جبهات أخرى كصعدة والبيضاء والحديدة والضالع قد تشتعل في أي لحظة، وهو على رأس جماعة تجند الأطفال قسراً لخوض معركة غير متأكدين من أنهم ينتمون إليها.
الهروب إلى الأمام
تعرضت جماعة الحوثي لخازوق كبير في مأرب بعد أن نفد جزء كبير من مخزونها البشري دون تحقيق فائدة مرجوّه إلى جانب تجدد المواجهات معها في جبهات مختلفة من البلاد، فضلاً عن جبهات اخرى لم تتحرك، وبتقديري فإنها الآن تهرب إلى الأمام من خلال التركيز بالمقام الأول على معركة مأرب.
من الذكاء أن تفكر الجماعة بهذه الإستراتيجية، حيث وبكسبها لمعركة مأرب وتحقيق انتصار بالتقدم والسيطرة على المدينة ومنابع النفط تكون قد تمكنت من تحقيق هدف كبير وإبطال فعالية ضغوطات اخرى تتعرض لها في مناطق اخرى، ومن يتحاصر بلعبة الشطرنج يبحث عن حيلة أخيرة يصل بها إلى عرين الملك ليقول "كش ملك"، ولكنها الورقة الأخيرة وبالتالي فإنها مغامرة من لا يجيد الهرب إلى أماكن أخرى.
وبالتزامن مع تحركات دولية حثيثة لوقف إطلاق النار في اليمن، اعتمدت الجماعة على خيار انتحاري آخر تعزز من خلاله موقفها في المفاوضات وهو التصعيد العسكري على الأراضي السعودية، حيث ولم يسبق لها تكثيف هجماتها بهذه الصورة طيلة السنين المنصرمة، فلماذا تفعل ذلك الآن وهي تواجه تحديات كبيرة بالداخل، أو على الأقل مالذي يدفعها للتصعيد وهي بحاجة ماسة للجنوح إلى السلام.
يتسنى لنا معرفة ذلك من خلال أحداث الجمعة الماضية وإعلان المملكة العربية السعودية تعرض منشأة "أرامكو" النفطية بالرياض لهجوم حوثي بطيران مسيّر نجم عنه حريق هائل لم يسفر عن أي ضحايا حسب وزير الطاقة السعودي الذي قال أن هذا الاستهداف يعد تهديدا لأمن امدادات الطاقة بالعالم، من ثم اعلان الحوثيين هجومهم على المنشأة بست طائرات مسيرة، وبنفس اليوم أعلن ناطق الجماعة يحيى سريع استهداف قواتهم لقاعدة الملك خالد الجوية بخميس مشيط بطائرتين مسيرتين وتحقيق إصابات دقيقة- لم تعلق السعودية بهذا الشأن- ما يعكس استراتيجية الحوثيين هنا هي دعوة القيادي البارز في الجماعة محمد علي الحوثي عقب حادثتا الهجوم إلى وقف اطلاق النار في كافة محافظات البلاد بالإضافة إلى الجبهات الحدودية مقابل رفع الحصار شريطة إدخال السفن المحتجزة كأول إجراء من إجراءات رفع الحضر، وقد يُفهم هذا التصريح بالدعوة الجادة لوقف اطلاق النار دون الالتفات لأهمية الشرط المتمثل برفع الحصار إذ أن تلك الجملة متعلقة بالداخل.
يُصعّد الحوثي في مأرب ليكسب المعركة التي ستضمن له البقاء وستخفف عنه أعباء المواجهة في جبهات اخرى تستهلك ما تبقى من قدراته وتقوده إلى الإنهيار الحتمي، ويكثف هجماته على السعودية برقصةٍ أخيرة يريد من خلالها أن يعلن عن قبوله بمفاوضات من منطلق الطرف القوي الذي يدير دفة الحرب ويتحكم بزمامها، بينما هو في الواقع يجرب كروته الأخيرة للظفر بمحافظة تنعش حياته المحكوم عليها بالفناء، أو كسب مفاوضات تحفظ له ما تبقى من مناطق سيطرة وحضور سياسي.
خيارات المواجهة
لدى الشرعية ومن خلفها التحالف فرصة كبيرة لكشف الستار عن الهشاشة التي ترافق جماعة الحوثي، من خلال تعزيز صمود الجيش في مأرب، ورفع وتيرة المواجهات في تعز وحجة المفتوحتان حالياً، ويتطلب ذلك وقوفا حقيقياً من قبل التحالف إلى جانب تمكين الحكومة من الإيفاء بالتزامتها للمواطنين بالجوانب الاقتصادية والمعيشية، كما يتطلب ذلك تمكين الجيش في بعض المناطق من السلاح الثقيل وصرف مرتبات الجنود المتأخرة
غير أن بعض التحديات ما زالت تقف أمام هذا الطريق وأهمها المسار الدبلوماسي الذي انتهجته أمريكا، وعرض خطة وقف اطلاق النار التي دعت إليها الاطراف اليمنية.
إن المجتمع الدولي وهو يتحرك لإدانة الهجوم الحوثي على مأرب وإن كان بإدانات خجولة ولا ترقى إلى مستوى فرض إجراءات رادعة، من باب أولى انه سيتحرك لإدانة التقدم الذي يحرزه الجيش الحكومي في تعز أو في غيرها، دون الأخذ بالاعتبار أن من حق الجانب الحكومي استعادة مناطق تسيطر عليها مجاميع متمردة، إذ من الواضح أنهم يتعاملون مع الحرب في اليمن كصراع أطراف متساوية، وهنا يتطلب على الشرعية تكثيف الجهد الدبلوماسي ومضاعفة العمل على هذا الصعيد بوتيرة مرتفعه لتحييد المجتمع الدولي والتنسيق مع المنظمات الإنسانية والدولية لضمان إحتواء أي كارثة إنسانية ستخلفها المواجهات، باعتبار هذا الجانب يشكل واحدة من أهم أوراق الضغط على الخيارات العسكرية.