عشر سنوات لانطلاقة الربيع العربي في نسخته اليمنية في مثل هذا اليوم 11 فبراير والذي حرك المياه الراكدة ووأد بفعل الدولة العميقة و بعض رموز شعوبه والتماهي لدور إقليمي لازال فاعلا إلى يومنا هذا.
لم تثار ثورة او انقلاب في التاريخ العربي الحديث تساؤلات وشكوك مثلما اثار الحراك العربي الذي اندلع قبل عقد من الزمن ولا زالت تداعيات وافرازته ماثلة أمام أعيننا .
فالتساؤلات التي طرحت ولا زالت حول الحراك العربي " الربيع العربي أساسية وتتعلق بجوهر العملية الثورية وفلسفة التغيير تلك الفلسفة التي غابت على جزاء كبير من مفكرينا ومثقفينا تحت نشوة الانتصار المرحلي الزائف من دون ان يخضعوا هذا الحراك لابسط نظريات التغيير التي ملخصها بأن أي ثورة من دون قيادات ثورة او نظرية ثورة هي مجرد هرولة للمجهول.
في هذا السياق يقول الكاتب الفرنسي جوستاف لوبون وأحد كبار مفكري الثورة الفرنسية:" في الغالب تتم الثورات التي يتوقف عليها مصير الشعوب بالتدريج، وهذا ما يجعل كثير من المؤرخين يلقون المصاعب في تحديد بدايتها، لذلك أرى كلمة تطور أصح في التعبير من كلمة ثورة" عبارة تشير إلى أن الثورات تقوم مرة واحدة وما يأتى بعدها مجرد امتداد وتطور وفي بعض الأحيان مراجعة وتصحيح، وبعد مرور عشر سنوات على ثورات الربيع العربي هل تحقق مراد الشعوب في التخلص من أسر الاستبداد والانعتاق من رق سياسة التبعية في الداخل والخارج؟
نفس الكاتب يقول في كتابه “سيكولوجية الجماهير” إن الجماهيرلا تعّقل، فهي ترفض الأفكار جملة واحدة أو تقبلها جملة واحدة، من دون أن تتحمّل مناقشتها، وما يقوله الزعيم يغزو عقلها سريعا، فتتجه إلى أن تحوّله سلوكا وعملا، بشكل لا إرادي، فيُفضي ذلك إلى عبادة الزعيم والخوف من بأسه، وإلى الإذعان الأعمى لمشيئته، ويصبح كلامه في نظرهم دوغما لا تناقش!
وبإسقاط هذا الكلام على واقعنا المعاصر وربطه بما حدث في الثورات العربية، يتضح أن سيكولوجية الجماهير تجاه من يحكمونها لها تركيبة خاصة، تتداخل عوامل كثيرة في تشكيلها النفسي والمعرفي، أولها الإيهام الإعلامي بأن الحاكم لا يُخطئ ومرتبته تصل إلى مصاف الآلهة، وأن استمراره في الحكم قدرًا لابد من قبوله والرضا به، وإلا سيعم القحط والجفاف بالعباد وتنتشر الفوضى في البلاد ونصبح مثل سوريا والعراق، ويُرسخ لهذا الاتجاه بطانة فاسدة من رجال دين وسياسة، ونخب علمية واجتماعية، للقبول بالأمر الواقع ورفض أى حراك للتغيير، وتقديمه على أنه لن يجلب على الشعوب الا البلاء والوباء والتشريد، وهنا تكمن أهمية البدء في إسقاط مشروعية التبرير أولا تمهيدا لإسقاط النظام، فهو يقوى بهم على الجماهير لإحباط أى محاولة للتغيير، وهذا يبدأ بتعزيز الوعي في عقول الجماهير تجاه خطورة هؤلاء، وهذا ما غفلت عنه الجماهير في ثورتها واهتمت برأس الفساد وتركت ذيله يرتع ويلعب حتى كبر وخرجت له رأس أخرى أشد ظلما واستبدادا.
والمفارقة الأخرى أيضاً أن الدول العربية والإقليمية التي أقدمت على دعم شعوب” دول الربيع العربي” بالمال و السلاح بحجة الدفاع عن حريتها المسلوبة و ديمقراطيتها المغتصبة, هي نفسها لا تتمتع بالحرية و الديمقراطية بل تقمع شعوبها أو الأقليات لديها ( أليس هذا غريباً ) , وحتى لو كانت هذه الدول ديمقراطية , فهل الديمقراطية تبيح لك استخدام السلاح لإقناع خصمك بعدم استخدام السلاح . إن استخدام السلاح أو التهديد باستخدامه ينسف أسس وأبجديات الديمقراطية , فأي ديمقراطية لدول و شعوب “الربيع العربي ” تريدون .
لعل أسوأ كابوس يواجه أي نظام سياسي هو قيام ثورة شعبية، لأن عقال الجماهير ينطلق، سبب هذا الانطلاق هو أن الاحتقان الشعبي صادف لحظة وعي تاريخية. الثورة كابوس للمستبد، وحلم للثائر، ولكن سؤال ماذا بعد الثورة إذا لم يكن حاضراً في حسابات الثائر تضيع جهوده ويبتلعها المستبد، ذلك أنه يقدم تنازلات ومكاسب هشة تجعل الثائر يشعر بالانتصار، عندما يقبل الثائر بهذه المكاسب الهشة تتلاشى قوة الضغط المُستخدمة ضد النظام ويتمكن النظام من تولي زمام الأمور من جديد ونعود لحلقة الاستبداد المفرغة من جديد، لذلك على الثائر أن يدرك أن احتشاد الجماهير للمطالبة بالحقوق لا يعد نجاحاً، إذا فشل في إعداد خطة مستقبلية لمرحلة ما بعد الاحتشاد وإذا غابت الأهداف الكبرى وبقيت الثورة رهن المقامرة السياسية.
ويرى بعض المفكرين في هذا السياق بأن ثورات الربيع العربي لن تؤتي ثمارها إلا إذا تحررنا من الخوف من الفتنة وتمسكنا بفعل ومنطق وفقه الثورة، التحرر من الخوف من الفتنة يمثل فرصة تاريخية بالنسبة للأمة، كيف ذلك؟!، الحضارة تتشكل ضمن تحديات كبرى وأحداث جسام، ويشترط قيام الحضارة وجود فرصة تاريخية للأمة تنتقل فيها من موضع المفعول به إلى موضع الفاعل.
هل يتجدد الربيع العربي بموجه أخرى ..؟
قبل أن تُتمّ "القوى المضادة" لثورات الربيع العربي احتفالاتها بدفن أحلام الشعوب بالإصلاح والتغيير، سيما بعد انتكاسة ثورة يناير في مصر، في المنقلب الثاني للعام 2013، وتفاقم الحروب والصراعات في كل من سوريا وليبيا واليمن وعليها، كانت المنطقة تتحضر لاستقبال "الموجة الثانية" من ثورات الربيع العربي...هذه المرة من الجزائر والسودان، قبل أن يلتحق بها العراق ولبنان، وسط قناعات تزداد شيوعاً، بأن المنطقة العربية، بصدد استقبال "موجة ثالثة" من الانتفاضات والثورات في مرحلة "ما بعد كورونا"، يصعب التكهن بتوقيتها والأشكال التي ستتخذها والدول والمجتمعات التي ستضربها.
وثمة مسببات ثلاث تطغى على المعالجات التي تناولت الذكرى العاشرة لاندلاع ثورات الربيع العربي، تعكس كل واحدة منها، زاوية نظر ومصالح الأطراف التي تعبر عنها، وبصورة أوسع، تعكس مصالح وحسابات القوى التي انخرطت في أزمات المنطقة وصراعاتها خلال السنوات العشر الفائتة:
طروحات بعض "المستغربين العرب"، وتعيد انتاج خطاب استشراقي – استعلائي، يصر على استحداث التفارق بين العرب (غالباً الإسلام) والديمقراطية، لكأن هذه المنطقة، "مكتوب عليها" أن تبقى أسيرة أنظمة الفساد والاستبداد، العسكرية والسلالية، إلى أبد الآبدين.
السبب الثاني الثورة المضادة، والثورة المضادة هنا، هي مزيج من القوى والدول، المحلية والإقليمية، التي تظافرت جهودها لقمع هذه الثورات وحرفها عن مساراتها، وإغراقها في العنف والدم، متكئة إلى فائض القوة المالية والإعلامية (الخليجية أساساً)، وخزان القوى الدينية (السلفية والوهابية أكثر من غيرها)، والنفوذ المتراكم والمتوارث لعناصر وأذرع "الدولة العميقة"، وتحديداً مؤسساتها الأمنية والعسكرية الصلبة.
المسبب الثالث : قوى الإصلاح والتغيير، المبثوثة في ثنايا الحراكات الشبابية والاجتماعية التي لم تهدأ يوماً، وفي مختلف الدول والمجتمعات العربية، والتي تتكشف عنها مسوحات الرأي العام، التي تُبرهن بما لا يدع مجالاً للشك، بأن "روح الربيع العربي" ما زالت تحوم فوق الساحات والميادين، وأن شعوبنا وأجيالنا الشابة، ما زالت تنبض بروح الثورة والانتفاض، بعد أن غادرت وإلى الأبد، ثقافة الخوف والخنوع والاستتباع، وأن ثورات الربيع العربي، ما سبق منها وما لحق، لم تذهب هباء منثوراً، بل مكّنت أجيالاً بأكملها، من "الوعي بذاتها"، والانفتاح على مفاهيم أكثر حداثة لمستقبلها، لحقوقها وواجباتها، لشكل الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ولنظرية "العقد الاجتماعي" التي سيتعين إعادة انتاجها في السياق العربي، التاريخي والثقافي والاجتماعي، مهما طال الزمن ومهما عظمت التضحيات.
ومن ضمن مفارقات تداعيات الربيع العربي في نسخته اليمنية أيضاً بأن البؤر الساخنة في المنطقة تختلف عن الحالة اليمنية فبينما توارت أنظمة عربية بشخوصها استمر الرئيس السابق حتى رغم انه منح حصانه يحلم بها اي دكتاتور عربي وتذرع بالمؤتمر كمسمار جحا ، وكأن المؤتمر هو صانع المعجزات ..
وهكذا استمر نفوذه بشكل او بأخر حتى مقتله يلعب دوراً سياسيا بالتنكيل باليمن وعرقلة الفترة الانتقالية والوصول لما نحن فيه بينما ظلت النُخب السياسية نفسها بمكوناتها السياسية وقواعدها ..
فما جرى هو فقط تبادلت الأدوار بين ما يسمى بشرعية والدولة العميقة وما حدث هو انقسام تلك النخب على نفسها ومما زادها انقساما هو دخول مكون جديد في المشهد كقوة صاعدة عسكرياً وعاجزة سياسياً ومؤدلجة مذهبياً الأمر الذي دعا خصوم الأمس ليصبحوا حلفاء اليوم والعكس صحيح ، ويدخل الجميع في مشهد تصادمي سريالياً على النحو الدرامي الذي نشهده خلال بضعة عقود شهد اليمن هزات اجتماعية وسياسية عنيفة ، اهمها تداعيات ثورة 1962م وحرب طويلة ، ثم افرازات الربيع العربي في نسخته اليمنية ومألاته لوصول الحال لما نحن عليه في هذه الحرب التي بلا افق ولا هدف.
وما بين حرب الستينيات وهذه الحرب اكثر من عشرة حروب عبثية أخرى معضمها مع الحوثيين الذين تحالف معهم الرئيس السابق رغم انه خاض حروبا ضدهم وكانه حرب تحريك وليس تحرير ، انهى الرئيس السابق حياته بصورة درامية ونال جزائه .
تلك التحولات العنيفة والحادة التي عانى منها اليمنيين في اقل من ستة عقود يصعب فهمها في سياق المنظومة المعرفية التي تتحكم بعقول بعض النُخب الحاكمة المتعاقبة والمشكلة للدولة العميقة الفاسدة ، منذ اكثر من خمسة عقود تخلل نصفها الزمني ميلاد (يمن وحدوي جديد) فُرض عليه الديمقراطية دون دراسة وتمهيد وتهيئة وغدت ضمن بعض القيم التي غدت افتراضية دون تفكيك العقلية القبلية والعصبية ضمن جمهوريات العسكر العربية المتسلطلة انتهت بتسليم كل مقدرات الدولة لحفنة من الميلشيا بمساعدة ودعم الدولة العميقة التي تزعمها من يفترض بأن الثورة قامت ضده فأدت بداهة الى حالات كارثية نسفت السلم الاهلي وفككت النسيج الاجتماعي ادت لخلق بيئة تعزّز ذهنية التقسيم والتفكيك ، فاليمن فرض عليها حكم ميلشيا بتهاون وتواطئ محلي واقليمي ودولي كل ذلك ساهم من الاحتقان الشعبي المتزامن مع حالة عوز وفاقة وغياب الدولة المفترض.
*كاتب يمني وسفير في الخارجية