نعم.. العالم يتغير بشكل سريع، إرهاصات التحولات التاريخية ملحوظة، مؤشرات الـ»خضات الاقتصادية»، والارتجاجات الاجتماعية، والتحولات السياسية والعسكرية تتجلى يوماً بعد يوم.
الأمريكيون يفضلون وجوداً أقل في الشرق الأوسط وأوجاعه، والذهاب إلى بحر الصين الجنوبي لمواجهة «تنمر» الصين. الروس كـ»الدب في القفص»، يشعرون «بسكين حريرية» تقترب من رقابهم عن طريق الاقتصاد، ويردون بقوة في سوريا وأوكرانيا، ويلغون في دماء السوريين بشكل مسعور، وكأنهم من تسبب في انهيار الامبراطورية السوفييتية. روسيا التي خرجت من الدين خلال سبعين عاماً، تكتب كنيستها اليوم العبارة «باسم الرب»، على الصواريخ التي تدك مستشفيات حلب وحمص، وبوتين يواصل «حلمه القيصري» المرعب، ويخبئ صليبه تحت ربطة عنقه الأنيقة. أما أوروبا فتائهة بين قيمها ومصالحها، المهاجرون إليها بالملايين، واقتصادياتها لا تتحمل، وبنية مجتمعاتها مهددة بالتفكك، وكيانها السياسي المتمثل بالاتحاد الأوروبي يترهل، مع تصاعد النزعات القومية لدى شعوب القارة التي تغضن جلد خديها.
ديفيد كاميرون يسعى جاهداً لإقناع البريطانيين بالبقاء ضمن أوروبا، والكثير لا يريدون البقاء. «لسنا أوروبيين»، نحن بريطانيون مختلفون. قال إنكليزي غاضب من إنغيلا ميركل، وهو ينفث دخانه في وجه الزمن الذي أرغم البريطانيين على أن يكونوا في «اتحاد» واحد مع الألمان.
اليمين الأوروبي يتغول، ويتوغل في مؤسسات الدول، ومارين لوبان تتسع ابتسامتها يوماً بعد يوم، وعيناها تحلقان هناك إلى «قصر الأليزيه». اليمين النمساوي بدوره يتقدم، ونوربرت هوفر، مرشح «حزب الحرية النمساوي» تتسع ابتسامته يوماً بعد يوم. و»حزب البديل» الألماني حقق إنجازا لافتا في انتخابات مارس في ثلاث مقاطعات في الدولة.
وموجات المهاجرين تجعل أوروبا تتجه يميناً، على إيقاع اليمين الألماني الذي يرى أن الإسلام ليس جزءاً من النسيج الألماني، على الرغم من ملايين المسلمين الذين يعيشون في البلاد. في إسرائيل يريحهم تقدم اليمين الأوروبي لجهة أن خطابه موجه ضد الإسلام، لكن يد إسرائيل على القلب من تشكل حركة يمينية قومية، تفضي إلى أوروبا منتصف القرن العشرين.
في الشرق الأوسط: الإيرانيون خرجوا ولو جزئياً من تحت الحصار الدولي، يريدون أن يتنفسوا بالمزيد من القلاقل في المشرق العربي. الجهة التي يفضلها الإيرانيون هي التي تقع على حدودهم الغربية، لأنهم لا زالوا ينظرون إلى الجيران غرب الحدود من زاوية معارك القادسية، وحكاية ملك كسرى الذي قضى عليه مجموعة «من الأعراب حرشة الضباب، وأكلة الكواميخ، ورعاة البعير». الإيرانيون يعيشون في «جيتو تاريخي» لا يريدون مغادرته،
رغم ذلك «الهولوكوست التاريخي»، الذي صهر التاريخ والجغرافيا. يريد الإيرانيون مزيداً من «أحصنة» طروادة في البلدان العربية. «المحاصصة» هي المشروع الإيراني لمستقبل هذه البلدان. بالمحاصصة تضمن طهران بقاء وكلائها في قلب معادلة السلطة والثروة في دول المنطقة. الديمقراطية غير محبذة في بلداننا من الزاوية الإيرانية. الديمقراطية تعني «حكم الأغلبية»، التي لا تريد إيران، ولا تريدها إيران. المحاصصة مريحة تضمن «الثلث المعطل» لحزب الله في لبنان ولوكلاء طهران الجدد في اليمن، وتضمن بقاء النظام الطائفي في دمشق. دعونا نسكت – مؤقتاً – عن بغداد، لأنها دخلت الجيب الإيراني منذ سنوات بأثلاثها الثلاثة.
ويستمر التغير الدراماتيكي…النفط تتدهور أسعاره، واقتصاديات النفط في الخليج تحاول التحرر من قيوده. الحراك الاقتصادي يتبعه حراك سياسي واجتماعي.
الخليج يريد أن يكون مركزاً تجارياً عالمياً، بعد عصر النفط، حسب رؤية ولي ولي العهد السعودي، وجسر سلمان سيربط آسيا وأفريقيا، وحركة التجارة ستنشط بين القارتين، وأوروبا. الرياض تذهب للقاهرة وتذهب أبعد إلى إسطنبول. جسر سلمان هو «سكة الحجاز» الجديدة. تريد الرياض التواصل مع الأتراك. تشعر الرياض بأن «حائك السجاد» الإيراني يحوك أمراً ليس طيباً لها وللعرب، وتدرك أنها المستهدف الأول، وتتصرف على هذا الأساس.
أنقرة تعود «دافئة» إلى أبوظبي، والرياض ترقب المشهد عن قرب وتبتسم، الرياض أيضاً تستطيع أن «تحوك السجاد»، وهي تقف وراء «حياكة» سجادة جديدة بين أنقرة وأبوظبي. يد طهران على القلب، عينها على دبي بالطبع، ويبدو أن أنقرة قادمة للخليج، وهذا ليس بالخبر السعيد للملا حسن روحاني الذي يحاول أن يغطي ببسماته حقيقة ما تخفيه عمامته من طموحات وأفكار. داوود أوغلو كذلك في الدوحة يفتتح قاعدة عسكرية تركية، وطائرات حربية سعودية في قاعدة «إنجرليك»، وجنود أردوغان يبنون قواعد في الصومال وجيبوتي.
تركيا تعود للخليج من البوابات الرسمية، في حين تحاول إيران استمرار الدخول من الشبابيك. يطمئن الخليجيون – إلى حد ما – للأتراك، ويتوجسون من إيران. التجانس المذهبي له دور بالطبع، البعد الجغرافي لتركيا يبعث على الطمأنينة، بينما طهران على مرمى حجر من الخليج. دخول أنقرة الناعم من بوابة التنمية يجذب الخليجيين أكثر من خطابات قادة الحرس الثوري الذين يستطيعون «تدمير إسرائيل في ثماني ساعات، وتدمير أمريكا، في 48 ساعة»، وأكثر من أحاديث خطيب جمعة طهران عن خامنئي الذي يتواصل مع الإمام المهدي بشكل يومي. بسمات روحاني وظريف لم تعد تكفي لتغطية نوايا قادة الحرس الثوري، ولعبة «تبادل الأدوار» المفضلة بين المحافظين والإصلاحيين في طهران، أصبحت مكشوفة القواعد لدى دول المنطقة. تسعى الرياض لبناء محور موازٍ للمحور الإيراني. تدرك إيران أبعاد سياسة «عرب الصحراء»، تقلق من خطوات الرياض، وتعرف أن مكانة السعودية الدينية والاقتصادية مؤثرة.
تستميت طهران لفتح نافذة سعودية خليجية، وتشكو من الصد المتواصل. ترسل الرياض إشارات إلى أن الأبواب ليست مغلقة، ولكن للدخول شروط، تريد طهران أن تدخل بشروطها، والخليج يريد دخولاً طبيعياً، بشروط متكافئة. الخليج يريد دخولاً عبر الباب، والإيرانيون مغرمون بأهداف التسلل. يقيمون علاقات رسمية مع حكومات الدول العربية، لكن علاقاتهم الحقيقية هي مع مجاميع «التشيع السياسي» داخل هذه الدول، لزعزعة استقرارها. طهران ترى أن اختراق «العالم السني» سيكون أسرع إذا بثت شيئاً من الدفء في عصب العلاقات المقطوعة أصلاً مع الرياض، والرياض تعرف ذلك الهدف الإيراني، وترفض ذلك «الدفء» الحارق. هذا زمن إرهاصات التحولات الكبرى في المنطقة.
والعالم اليوم يشبه المرحلة المفصلية التي اختفى على إثرها العالم القديم بقيادة فرنسا وبريطانيا، ونشأت قوى جديدة في أمريكا والاتحاد السوفييتي. ويجري الزمن بسرعة، وميشال أوباما تستعد لنقل ملابسها من دولاب الملابس الأنيق في البيت الأبيض، زوجها يرحل بعد فترتين رئاسيتين ساد خلالهما غير قليل من الجدل والصخب والأحداث الكبيرة، والأمريكيون الذين انتخبوا أول رئيس أسود، ربما ينتخبون بعده أول امرأة لعرش البيت الأبيض، ويستمر خط أوباما، وربما يدخل الجمهوريون فيقلبون المعادلة. العالم يتغير، وترتيب أوضاع المنطقة مسؤولية القوى الإقليمية والدولية. أما العرب فمطلوب منهم أن يتكلموا أقل، أن يعملوا أكثر، وأن يفكروا أكثر وأكثر.