الإمارات وزعزعة الاستقرار في المنطقة
الاربعاء, 13 نوفمبر, 2019 - 08:45 صباحاً

كان اتفاقا بين حكومة ومتمردين، كما بدا في حفل التوقيع. حصل المتمردون على الوظائف والحكومة على التهدئة، وعد ذلك نجاحا. فالمتمردون الانتقاليون أسسوا مجلسهم بعد أن أبعدوا من وظائفهم في الدولة الاتحادية. من المبكر القول إن الاتفاق سيقود إلى سلام مستدام إذا ما وضعنا في الصورة الحضور الإماراتي الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. لدى النظام الإماراتي الكثير من الوقت والكثير من المال، وتبدو معاركه خارج أرضه محاولة لتمضية الوقت، ولإشغال الذات بقليل من الإثارة. الإثارة ترفع منسوب الأدرنالين في الدم وتكسر ملل الأيام.
 
الأمير الذي ليس لديه ما يشغله صنع لنفسه وحوشا وأعداء وراح يضربهم بسيفه ورمحه. تتحدث تقارير كثيرة عن نشاط الإمارات في دعم التيارات الراديكالية، وإصرارها على زعزعة الاستقرار السياسي في عديد دول. الحاكم لا يرى أي شيء من ذلك، فقد رأى الطواحين على هيئة وحوش، وقطعان الماعز على شاكلة جيوش، وقرر أن يهزمهم. تماما كما فعل دون كيشوت من قبل..
 
فبعد أن خرج سيرفانتس من سجن الملك ذهب يكتب "دون كيشوت"، مستحضرا الحاكم التافه الذي يملك كل شيء وليس لديه ما يفعله ويثيره. راح دون كيشوت، كما تخيله سيرفانتس، يبحث عن الأعداء حتى يجد لحياته معنى ولما لم يجدهم تخيلهم. رأى الأشياء التي لا وجود لها، ووقف أمام سرب من النعاج وراح يشتبك مع كل ذلك بسيفه معتقدا أنه يواجه جيشا من الغزاة. وفي نهار يوم من أيام أسبانيا رأى بيتا صغيرا لراعي أغنام، ربما، فراح يركض أمامه بخيله ويصوب عليه الرمح قبل أن يسقط أرضا. لقد رآها واحدة من قلاع العدو.
 
دار أكثر من مرة، شاهرا سيفه، أمام الطواحين الهوائية التي تخيلها وحوشا عملاقة بأذرع طويلة. أثار كيشوت الحزن والضحك معا، لكنه وجد لحياته معنى، حتى إنه رسم امرأة على لوحة وانتظرها في نهاية معاركه. ربما كان كيشوته هو الملك في ملاله وفقدانه للمعنى، في تخيله للوحوش والمخلوقات العملاقة، وفي عثوره على لذته الخاصة في نهاية المطاف عقب تلك المعارك المتخيلة.
 
ما يخلقه النظام الإماراتي من اضطرابات وحروب صغيرة يقع كليا خارج أي سياق ممكن للإستراتيجيا. اللعبة مسلية، والرجل لا يملك الكثير من التسلية، وهو في الستين من عمره ولم يجد المعنى بعد. يتنقل بين المعارك والحلفاء بخفة، ذلك أن بعض ألعابه تفقد مع الأيام قدرتها على إثارته. اللعبة اليمنية مثيرة، وقد كلفته الكثير. في بعض مراحلها استطاعت أن تأخذه إلى حافة مقعده وهو يتابع تفاصيلها. استدعى الطيارين فحدثوه عن الأهداف الأرضية التي كانوا يمحونها من ارتفاعات شاهقة، عن اليمن لحظة تحوله إلى دخان.
 
إنها لعبة أكثر إثارة من بناء الأبراج العالية، تلك اللعبة التي شاهدها مرارا منذ طفولته ولم تعد تبهج أحدا من العائلة. كتبنا عن تطلعاته الاستعمارية، عن هوسه بالبحار، عنه وهو يقتفي آثار مملكة الأمواج. بالغنا كثيرا في تخيل مآزقه الوجودية. ربما كان الولد يعلب وحسب، يثير نفسه ويجد في تلك الإثارة معنى. فالحرائق التي يخلقها بحماس منقطع النظير هي ما تبقى له من ضروب التسلية. قال أحد رجاله: إنه يشعر بنشوة عارمة عندما تصفه وسائل الإعلام بعدو الإخوان المسلمين. يتعلق الأمر بالنشوة، بتلك اللعبة التي تبهج أولئك الذين يملكون المال ويعيشون في ملل.
 
يعاقب النظام الإماراتي على القبلة بالترحيل، على التدوينة بالسجن لخمسة عشر عام، يدعم التيارات السلفية العابرة للحدود، يقدم نفسه كمركز للتصوف العالمي، كما يقيم علاقات متينة مع أنظمة وتنظيمات يمينية راديكالية. يتخبط بلا إيديولوجيا ولا إستراتيجيا، وهو بهذا المعنى بلا أعداء فهو لا يملك نظرية وليس لديه مخاوف. الولد يلعب، وهو يتخلى عن الألعاب التي تفقد توترها الدرامي وتفشل في تسليته مع الأيام.
 
هدد، ضمن آخرين، بعاصفة حزم ضد النظام السوري. ثم سرعان ما فتح سفارته في دمشق والخطوط الجوية. وكذلك فعل مع إيران. عندما كان الوقوف في وجه الأسد أمرا مسليا كان أمير أبوظبي في المقدمة. مع الأيام اكتشف اللذة في انقلابه على عاداته، وقرر أن يبني جسورا مع دمشق لأن من شأن ذلك أن يثير آخرين ضده. يحب الإثارة، فهو لا ليس لديه في بلده الكثير منها. فالأبراج لم تعد تثيره، وهو لا يملك شعبا بالمعنى المتعارف عليه تاريخيا. كل ذلك يبعث على الملل.
 
بينما هو يحاول إنقاذ نفسه من خلال إشعال الحرائق البعيدة يذكّرنا بالأطفال الأثرياء البائسين في التاريخ وهم يتسكعون في القصور وقد فتك بهم الملال، فيفرون إلى الغابات، يعذبون العبيد، يناقرون بين الديكة، أو يتجرعون السم. لا يمكنك أن تكون صديقا لذلك الأمير الملّال، ولا أن تستجيب لمزاجه. إذا وقعت في شاشة راداره فستخطئك في الغد، فما من أحد قادر على أن يسلي الرجل على الدوام.
 
يدرك، مثل أي طفل ولد في قصر، أن تبديل المشاهد متعة، وأن أشخاصا وأحداثا جديدة لا بد وأن تصعد إلى المنصة من وقت لآخر لتثير انتباهه. إن أسوأ ما يثير امتعاضه هو المبالغة في مديحه وحبه. لقد اعتاد على ذلك في كل حياته، ما من إثارة في ذلك. العصابات التي تعمل تحت إمرته تثيره أول الأمر، إلى أن يمل من طاعتها فيأمرها بالتحول إلى شكل جديد، كأن تتفق مع أعدائها. ثم يجلس ليراقب تطور الأمور قبل أن ينسفها من جديد مستمتعا بالإثارة المصاحبة لمشهد انهيار الاتفاقات، وبالأصابع الكثيرة التي تشير إليه بحسبانه كلي القدرة، من في قبضته الحرب والسلام.
 
يذهب أمير أبوظبي بكل دباباته إلى مكان ما ثم يعود بها على ظهره غير آبه بما أنفقه خلفه. فالمتعة التي يعود بها تستحق تلك الخسارات. العالم مسرح، قال شكسبير. كل ما يتحرك على ذلك المسرح يمكن أن يصبح موضوعا لتسلية الأمير. فما من شيء يعادل في وطأته حياة أمير فائق الثراء وليس لديه ما يفعله ..
 
* نقلا عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

التعليقات