النهقة الأخيرة لعفاش الصعب
الجمعة, 25 مارس, 2016 - 06:56 صباحاً

قبل عام كامل من هذه الساعة كان عفاش يحدد للرئيس هادي طريقاً للهرب، فنال تصفيق الخدم. استدار الزمان ٣٦٠ يوماً، وأطلت شمس صنعاء من جديد على عفاش يبحث عن طريق للفرار. المظفر، قبل عام، من يحدد طرق النجاة للخصوم، تقطعت به السبل. هل هذا هو ما يدعوك للاحتفال؟ أم أنها الحقيقة التي تريد أن تنساها بالصراخ والنهيق؟ ألهذا منحت نفسك اسم "الصعب"؟ تريد أن تهرب من الحقيقة وهي تنهق بداخلك؟
حتى الآن فشل رسله كلهم في اجتراح ممر آمن له، فهو يريد أن ينجو بماله وأشياء أخرى. بيد أن العروض التي يتلقاها، حتى الآن، مخصصة فقط لجثته الحية.
ليكون لمن خلفه آية!
نحن أمام حقائق تاريخية يحاول الصعب لفت النظر عنها:
خرجت اليمن من قبضة صالح، وأبدى اليمنيون بسالة منقطعة النظير. الذين خرجوا في ٢٠١١ بالهتافات والصدور العارية، فسخر منهم صالح ثم أطلق عليهم النار، أروه أنهم مستعدون لما هو أبعد من ذلك فخاضوا معه حرباً في الجبال والوديان، في الضالع وشبوة وتعز ومأرب وإب وصنعاء، وجرفوا آلاته وتشكيلاته العسكرية، وخنقوا أوهامه وأفاعيه.
ها هم الآن، على كامل التراب اليمني، يؤكدون حقيقتهم التاريخية، ويعبرون عن استعدادهم للذهاب إلى ما هو أبعد من النزال العسكري مع هذا الطاغية الأحمق، واللص القاتل والحاقد الصغير.
مر عام كامل انسحق فيه جيش صالح، وأتلفت ممتلكاته، تفكك حزبه وشبكته، وانكشفت أوراقه كلها بما فيها ورقة الإرهاب. خرج كلياً من الواجهة السياسية وألحقت به لعنة تاريخية مرة، وصارت أسرته ذليلة، يتعاطف معها ضحاياها وهي تغادر العواصم العربية بعد رفض السلطات تجديد أوراقها.
من أخرجه شعبه من الحياة لن تعيده جريدة، ولا كرنفال مدفوع الأجر. لن ينجيكم من لعنة التاريخ، ومن لعنة الشعب ـ وهو قدر الأقدار ـ أن يسمي الصماد ابنه باسم جدك، فالصماد نفسه ليس أكثر من مخلوق ناتج عن حادث سير.
في محاولة أخيرة، النهقة الأخيرة، سيحشد صالح بضعة آلاف من شبكته. لم يعد قادراً على فعل ذلك سوى في شارع أو اثنين من الجمهورية اليمنية. من سقطرى حتى مأرب، ومن عدن حتى جبال تعز، ومن البقع حتى جبال نهم، وعلى امتداد بحار اليمن من المندب حتى حدود عمان لا يجرؤ أحد على أن يرفع صورة لصالح. سيكتفي بالشارع المجاور لبيته وسيسميه اليمن. وبآلاف من مرتزقته سيلطق عليهم الشعب اليمني. من الأعلى تبدو الحقيقة كاملة.
النهقة الأخيرة للصعب صالح يريد من خلالها إقناع العالم أنه يستحق الخروج الآمن. غاية حلم "الصعب" الخروج مع المال. لن يجرؤ سياسي واحد، ولا دولة واحدة، على منح صالح ما هو أكثر من الهروب. لم يعد أحد قادراً على أن يعيد صالح إلى شوارع عدن، ولا تعز. لقد غرب الرجل إلى غير رجعة، وبقيت نوايا ضحاياه ستلاحقه. أفلت كثيراً من العقاب، ولكنه لن يفلت إلى الأبد. تلك حتمية تاريخية، أو سماوية، لا فرق. ذلك مُراد الإله، أو تلك انتقامات الطبيعة، فالنتيجة واحدة: لن ينجو إلى الأبد.
هذا اليوم صدر حكم ضد "كارداتش" بالسجن أربعين عاماً عن مجزرة ارتكبها منتصف تسعينات القرن الماضي بحق شعب مسكين في كوسوفو.
بماذا يحتفل صالح؟
بخروجه من التاريخ ومن السياسة. قبل عام من الآن كان ملكاً، وكان يعرض على السعوديين خدمة جليلة: القضاء على الحوثيين، نظير موافقتهم على "أحمد رئيساً". اختار الجهة التي يعتقد إنها صحيحة، وذهب إليها يبيع دماء حلفائه لقاء المُلك. المُلك هو مُراد صالح، وهو ترياقه وسمه، وهو ما يفقده الآن كلياً، وهو ما لن يعود إليه حتى الأبد ويوم. تلك هي الهزيمة النهائية التي نالها صالح، وقوضته من الداخل، وجعلته خرابة تائهة لا يُرى منها سوى حشرجة ميتة.
لن يعود حاكماً، ولا أحد من أهله. ولن يجرؤ بعد الآن ولا أحد من أهله على النزول إلى الجنوب أو الوسط أو الشرق. ولا حتى التجول في العاصمة. خسر الحرب، فقبل عام كان يحاصر قصر الرئيس في التواهي، وها هي مدفعية المقاومة قادرة على أن تقصف قريته من جبال صنعاء. أما طيران التحالف فقد جعل من حرسه الجمهوري رماداً بقيعة. بقيت له عشرات الأطقم العسكرية المغطاة بشراشف! وتلك هي خاتمة نصف قرن البناء العسكري!
تغيرت قواعد اللعبة، وكانت الكلفة باهضة.
صحيح أن صالح لم يُقتل، ولم يلق عليه القبض. هذا هو الجزء الأقل أهمية في العملية التي نالت منه. فهو لم يعد قادراً على الانتصار، لا على خصومه ولا حلفائه. انظروا إليه، كان قبل عام يتظاهر بقوته العسكرية. ها هو يعود ذليلاً محني الظهر ليستعرض ببضعة آلاف من مرتزقته العزل في ميادين صنعاء، تحت العلم اليمني. ولكي يبدو رجلاً صالحاً، وكذلك يحاول كل ذليل ومهزوم، راحت قناة اليمن اليوم تهاجم شعار الحوثيين بالقول إنه شعار مستورد! استعراضه المهيب وهو يقتحم تعز بالدبابات، محروسة بالمروحيات، ذهب مع الريح، وبقيت له بعض القبائل تمده بحاملي الأعلام! هذا ما بقي من السلطان صالح، ومن دأبه على مر العقود. قتل أم لا، لا يهم، فقد صار جثة حية تثير الشفقة، ولا تخيف أحداً.
مصير الحوثي مشابه، فقد خسر كل شيء، وبقيت له جبال صعدة كما كان الأمر مع أجداده. بقيت لعبد الملك الحوثي جبال صعدة و٣٠٠ طقم مسلحين موزعة على ٢٠٪ من مساحة الجمهورية اليمنية. هذه معادلة رياضية على الخريطة، وليست من اختراعي. صحيح إنه لا يزال يتواجد في بعض المحافظات، لكنها سيطرة شكلية لن تصمد لمقاومة منظمة لأكثر من بضعة أيام، كما حدث مع إب قبل أشهر. حضور شكلي غير قابل للحياة، ولم يعد الحوثي قادراً على تغذية هيمنته على الأطراف على وجه الخصوص مع تقدم المقاومة والجيش إلى مراكزه.
لكن الرجلين جنيا شيئاً فادحاً: اللعنة والبغضاء.
لن يكون بمقدور أحد أن يغفر للرجلين ما فعلاه بأرضنا وأهلنا. بأكثر الرجال انحطاطاً جاء الرجلان وقتلا أفضل الرجال. وتلك قسمة ضيزى، لن ينجوا بها.
قبل عام كان لا يزال في وسع الحوثي الحديث عن الدولة والتعايش. جر اليمن إلى حافة حرب طائفية، ودفع بالسلالة الهاشمية لخوض حرب لا علاقة لهم بها، بعد أن نجح في إشعال النار الحمقاء بداخلهم، نار الاصطفاء المجيد، وحصدوا التوابيت. لا يعلم حزن الهاشميين الآن سوى أنفسهم. خسر الهاشميون ما أهو أكثر جلالاً ورهبة من شبابهم وأطفالهم: الأمن. سيعيش اليمنيون مستقبلاً مع كل اسم هاشمي كحالة أمنية. أما إيران فأبلغت الأمم المتحدة أنها غير معنية بالصراع في اليمن.
يذكر المقريزي في تاريخه سيرة رجل أسماه "يعقوب الكلب". استخدمه الفرنسيون في غزوهم لمصر، وكان أحد الأقباط، فراح يدلهم على المقاومين في الصعيد، ويفتح أمامهم الأبواب. بعد هزيمة الفرنسيين ألقاه سيده من على ظهر السفينة.
لم يمض على احتلال الحوثيين لصنعاء أكثر من ٢٠ يوم حتى كان قد فعل التالي: ٢٨ رحلة طيران أسبوعية بين إيران واليمن، أطلق سراح المعتقلين الإيرانيين، قام بتصفية بعض الضباط العراقيين من المطلوبين لإيران "كما نقلت قناة العالم في حينه"، فتح الموانئ لإيران، وأرسل وفداً مع السفير الإيراني إلى عدن ليطلع على الميناء وعبقرية المدينة.
لم يكن الحوثي يدأب، في الأيام الأولى لاحتلاله العاصمة، في شيء قد دأبه في تأكيد الحقيقة الإيرانية لمعركته، والوجه الفارسي الجديد لبلد كان سيد الأعراب على مر العصور. كان يصلح الكرسي الإيراني في صنعاء ويعنى بها أكثر من عنايته بكرسي نفسه!
لقد فعل عبد الملك الحوثي ما فعله "يعقوب الكلب" وسيلقى مصيره.
خسر صالح كل شيء، وخسر الحوثي كل شيء. بقي للرجلين حبل صغير للمناورة. مع كل يوم تكبر خسارة الرجلين، وتزيد مكاسب المناهضين لهما. الجزء البائس من اليمن، ما بقي تحت هيمنة الرجلين، أقل من القسمة على لصين وعصابتين.
يحتفل صالح بالصمود! يحتفل الحوثي بالصمود!
حسناً:
لم يقاتلكم اليمنيون لكي يقتلوكم، بل ليمنعوكم من تحقيق أوهامكم، ليوقفوا هيمنتكم على اليمن، ليضعوا حداً للتاريخ.. وقد نجحوا.
لم يقاتلكم اليمنيون لكي يستئصلوكم، بل ليمنعوكم من أن تعيشوا سادة أجلاء في وطن فقير. قاتلوكم لينزلوكم من صياصيكم، ويقذفوا في قلوبكم الرعب.. وقد نجحوا.
لم يقاتلكم اليمنيون لكي يمنعوكم من ممارسة السياسة وخوض الحياة، بل ليحولوا بينكم وبين أن ترثوا المستقبل، فتخربوه كما فعلتم مع الماضي.
قاتلوكم ليحنوا رقابكم، لا ليقطعوها، لينزعوا السم من عظامكم وأسنانكم لا ليخنقوكم.
قاتلكم اليمنيون ليحولوا دون أن يرث أولادكم أولادهم، لينتقموا لحزن وجوع آبائهم الذي صنعتموه، ليلحقوا بكم الخزي والعار والهزيمة، وليكتبوا على جباهكم: لصوص، مجرمون، وقتلة .. وقد نجحوا.
كنتم كل شيء، وصرتم أقل الأشياء قيمة.
كنتم تصولون وتجولون، وصرتم أكثر الناس خوفاً.
كان يشار إلى قصوركم من بعيد، وصرتم في العراء المحض.
صمدتم أمام التحالف العربي؟
لم تقاتلكم السعودية لتستئصل وجودكم، بل لتحني ظهوركم وتدفعكم لتقبيل قدم أبسط موظفيها كما كانت عادتكم، وها أنتم تفعلون.
قاتلتكم السعودية لتنزع ثيابكم المخططة التي لبستموها خلسة، فتعودوا حميراً قروية تصلح للضرب على المؤخرة ونقبل المتاع، بلا خطوط على الجنبين.. وها أنتم تفعلون.
قاتلتكم لتطوعكم مرة أخرى، لتصطفيكم من جديد كخدم وعبيد مختارين. انظروا إلى عفاش، لم توقع السعودية على ورقة بعد حتى صار يناديها بـ "الشقيقة" وهي التي شقت قريته إلى ثلاثة مليون حجر، ولعنت دابره حتى الجد التسعين!
ذلك العبد التعيس، صالح، لا يصلح لسوى ذلك الدور. لم يقاومها، ولم يقاتلها، هو فقط ضل الطريق وأخطأ الحساب فضربته بسوط فادح الصلابة على ظهره حتى آب .. وقد فعلت، وقد فعل.
ما علامة صمودكم؟
كنتم ساسة ورجال مال، وطبقة رفيعة، وقوماً مهابين، وكان الناس مجبرين على إبداء قدر من الاحترام والتبجيل لكم..
بعد عام كامل تصبحون قتلة مطاردين، غير مهابين، بلا مال، ولا أمل في العودة إلى الواجهة. خضتم معركة مع الإنسان العادي، البطل الشائع، الذي خرج حافياً في قرى الضالع وتعز، وألحق بكم ذلاً مراً، ثم جلس ينتظر. لن تعودوا إلى الواجهة مرة أخرى وذلك الرجل الذي ألحق بكم الذل في الضالع وتعز ينظر إليكم. لقد عرفكم، حفظ ملامحكم، وتعودت كفه على جلد ظهوركم، اللعبة القديمة فقدت أسرارها، ونشأت لعبة جديدة أنتم أقل علماً بها وأكثر وجلاً ورجفة.
اخرجوا واحتفلوا. اخرج أيها الصعب صالح، وانهق نهقتك الأخيرة.
من ملك مظفر، قادر على تغيير أقدار شعب كامل، إلى كالح محني الظهر لا يملك مصير نفسه. لماذا فررت من الحدود مع السعودية؟ لماذا استسلمتم لها وهي لا تزال تضربكم في عمق اليمن، وفي كل مكان؟ كيف تعملون حارثي ألغام لدولة لا تزال تلحق بكم الإهانة وتدفع نساءكم إلى العويل؟
أنتم أكثر من يدرك مشهد الحرب الراهنة. لقد هويتم من شاهق، ولم تعودوا قادرين سوى على خوض حرب تكتيكية محدودة الأجل. انظروا إلى حربكم في تعز، تحشدون ما تبقى لكم من عربات ومقاتلين لكي تقطعوا طريق سير بسيط! وبالرغم من أنكم لا تواجهون حرباً في الشمال، من إب إلى صعدة إلا أنكم غير قادرين، أيضاً، على غزو مدينة صغيرة اسمها تعز، فتكتفون بقطع طريقها! ذلك هو تعريف الجنرالات الفاشلين تاريخياً!
لم تعودوا قادرين على شيء. ها هي الضالع أماكم، لا تجرؤون على الاقتراب منها. ها هو فرضة نهم على مرمى حجر. ها هي البيضاء، محت أسماءكم وخلقت العويل في قراكم وأسركم واحداً واحداً وواحدة واحدة.
لقد وهن عظامكم، وضربت القشعريرة أعمدتكم الفقرية. تخوضون حرباً شكلية في الطرف الغربي من تعز لتقولوا للعالم إنكم لا تزالوا قادرين. معركة في خمسة كيلو متر مربع، تحتمون فيها بأرض واسعة إلى الخلف، وحقل ألغام. هذه آخر معارككم في تعز. أنتم أكثر وهناً من أي وقت مضى، وأكثر خوفاً وأكثر ألماً وأكثر رعباً.
كنا نشعر بالخوف قبل عام، أما الآن فلا نشعر سوى بالغضب.
كنا ننادي العالم، قبل عام ،ليضع حداً لسلطانكم، أما الآن فنطلب منه أن لا يحول بيننا وبينكم، أن لا ينقذكم
كنا نترجاكم أن تكونوا يمنيين مثلنا، أما الآن فها أنتم تستعيرون وجهاً يمنياً فلا تنالون سوى احتقارنا.
احتفلوا بالصمود، وتذكروا:
قبل عام كنا نتوسل إليكم بالخبز والنشيد والمطر المشترك، كنا نرمي أمامكم بكل الكلمات الطيبة التي تخجل السحابة في الجبل، وكنتم تتعالون علينا وتضربوننا بأعقاب بنادقكم..
والآن، نحن نطاردكم في كل المنحدرات والحفر، وندل الآخرين على مخابئكم. لم تعد سحنتكم، لا الخبز ولا النشيد ولا المطر المشترك، تشفع لكم عندنا بعد جريمتكم.
احتل يا عفاش الصعب، انهق نهقتك الأخيرة
فهذه النهاية البائسة تليق برجل لقيط، كان أول طفل يُطلب منه أداء اليمين في القرية عند حدوث سرقة
وعندما كبر، وصار على مشارف الثمانين، لا يزال يطلب منه أداء اليمين لنفس الأسباب.
ومن نعمره ننكسه في الخلق، يا عفاش الصعب.

من صفحة الكاتب بالفيسبوك

التعليقات