يؤمن البعض ويروج لنظرية إن أوروبا عندما تخلصت من الكنيسة وسلطتها الدينية استطاعت النهوض حضاريا وعلميا.
ولايدركون أن أوروبا تخلصت في المقام الأول من الديكتاتورية والسلطة المستبدة وحكم الفرد حتى وصلت إلى وضعها الراهن.
كل الأمراض السياسية وعوامل التمزق والحروب وعدم الاستقرار والفساد الذي تشهده كثير من البلدان، وتحديدا في الشرق الأوسط سببه سلطة مستبدة وطاغية يحكم، ولم يكن الدين يوما سببا من أسباب الحروب البينية والصراع الذي تشهده المنطقة، وربما تستخدمه بعض الأنظمة في صراعاتها المفتوحة، لكنه يظل عارض وليس سبب مباشر لما نحن عليه اليوم.
مئة عام (قرن كامل) من الحروب والثورات في المنطقة العربية تؤكد هذا الأمر، وتثبت أن الصراع كان وظل بين سلطة فاسدة مستبدة وشعوب مقهورة مغلوبة، أو بين أطراف متصارعة داخل الدولة على مصالحها الخاصة، والشعب بعيد عن أجندتها.
حافظت الممالك الأوروبية كأسر حاكمة على وجودها في بلدان أوروبا، لكنها تخلت عن طغيانها وهوسها بالسلطة، وجعلت الشعب يقرر من يحكمه، وآمنت بالحقوق والحريات الفردية أولا، ثم العامة ثانيا، فنهضت وأثرت واستقرت.
بينما لازالت الحروب والصراعات في المنطقة العربية تمضي بنفس المسار بين أنظمة مستبدة وشعوب مقهورة، ثم يجري تحميل الدين وزر كل تلك الحروب والصراعات، والتغاضي عن السبب المباشر للديكتاتوريات التي تحرق كل شيء في طريقها لكي تبقى.
ولعل المقولة الرائجة بأن الدين أفيون الشعوب، مثال واضح على الشعارات التي رفعت في مرحلة قريبة من التأريخ، واتضح أن الدين ليس أفيون الشعوب، بل الاستبداد والحكم القهري هو أفيون الشعوب الأول، وهو من يستخدم كل الأدوات ليبقى مهيمنا بما في ذلك الدين نفسه.
وحروب اليمن المتداخلة المستمرة مثال أيضا على هذا الوضع، فلم يكن الدين يوما طرفا فيها، بل أسيء استخدام الدين لخدمة الطرف المستبد، وحيكت الشعارات الدينية ورفعت لخدمة الحاكم، وبما يضمن بقاءه وسيطرته على العوام.
المشهد نفسه تكرر في الدولة السعودية بنسختها الثلاث، حين تم استخدام الدين كرديف للسلطة، ونفس الوضع مع إيران التي أعلنت قيام نظام جمهوري يستند على تصور فكري ديني، فظلت في صراع مفتوح مع نفسها ومع محيطها.
وحديثا قالوا إن "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، وهي دلالة أن كل نظام سياسي حين يظل لفترة طويلة في الحكم، ينتج عن ذلك العديد من الأمراض، والمفاسد التي تنعكس وبالا على الشعوب بالدرجة الأولى.
المفارقة الواضحة هنا، أن الدين بقي وظل ممتدا عبر التأريخ، بينما السلطات المستبدة، والفكر المروج للاستبداد، يتهاوى، ويثبت عدم فاعليته، وخلال قرن كامل أثبتت كثير من النظريات السياسية التي روجت لها أنظمة وأحزاب ديكتاتورية وشمولية عدم صحتها، وتهاوت أيضا معها شعارات دينية تم رفعها بشكل طارئ ومنفعل.
في مجتمعات الشرق الأوسط، لم يصل الدين إلى مرحلة التقاطع مع الأنظمة الحاكمة، فهي لم تحكم بغير الدين، لكنها تحاول تقديم الدين بنسخة خاصة بها، دين يجتزئ المفاهيم، ويعاد تفسيره بما يتصالح مع تلك الأنظمة، ويضمن بقاءها، وليس بما يجعل الدين حاضرا بكافة مفاهيمه ونظرياته، لذلك تم تفريخ الدين إلى مدارس تناسب ذوق كل نظام حاكم.
في المحصلة يسقط الدين بمفهومه الواسع ضحية للأنظمة المستبدة، وتحول الدين من منهج تصوري نظري وتطبيقي تستمد منه الأنظمة أسلوب الحكم، كون الدين هوية لتلك الأنظمة، إلى وسيلة للبقاء، عبر إخضاع الدين نفسه لمشرط الحاكم، يعبث فيه كيما يشاء، فظهرت الجماعات والتيارات الدينية التي أنتجتها الأنظمة الطغيانية لتشويش المشهد برمته (داعش مثالا).
لذلك من يرى في الدين سببا من أسباب التمزق اليوم، ويحمله المسؤولية عن التأخر الحضاري، والتخلف الإنساني، فهو يغالط نفسه، ويحاول أن يزين للاستبداد، وأن يخالف نواميس التأريخ.