نحو شهر أو يزيد من بدء ما عرف بمعركة الساحل التي طُبل لها إعلامياً منذ نحو عام وبدأت وكأنها فقاعة تلاشت في خضم الحديث عن محاولات الوصول لصيغة حل بعد أن وصلت معركة الحديدة لطريق مسدود.
تراجع حدة المعارك للعمق التهامي بعيدا عن الميناء يكشف أكثر من خلل في إستراتيجية التحالف ، أهم نتائجه تموضع الحوثي على طول الساحل وحشد كل مقدرات الدولة المغتصبة لمواجهة المعركة التي غدت وكأنها استنزاف للطرفين وحتما لا يعزى هذا فقط لاستماتة الحوثي لإدراكه بأن هزيمته فيها تعني بداية النهاية ولا للموقف الحازم للشرعية التي لن تتنازل عن المرجعيات الثلاث قيد أنملة ، ولكن تداخلات وتقاطعات متعددة تشير بأن الحسم العسكري غدا أكثر صعوبة عن ذي قبل ، ومعلوما بأن أي بؤرة حرب تزداد تعقيدا بمرور الزمن فما كان بالأمس ممكنا غدا اليوم أكثر صعوبة ، وما هو اليوم متاحا قد يكون في الغد شبه مستحيل.
نهاية معركة الحديدة بأي صيغة بالقوة العسكرية كانت او بالتفاوض بداهة لن تضع حد للحرب لكنها ستكون بداية لتحول نحو السلام وأيضا بأي صيغة ولكن يعتمد ذلك على نجاح خطة المبعوث الدولي ، الذي يدرك تداخل وتشابك القضايا في اليمن التي غدت ورقة مناورة سياسية رابحة ضمن جملة من البؤر الساخنة في عموم المشرق العربي.
فالمسار الإنساني هي الكلمة السحرية للضغط على أطراف التحالف والشرعية في آن واحد وفي المقابل هو طوق نجاه للانقلابيين.
ولا يتوقع من كل هذه المشاورات والرحلات المكوكية لانفراجه قريبة سوا لمعركة الحديدة او الحرب بشكل عام لكن يتوقع في أحسن الأحوال ان تختزل في حلول إنسانية متمثلة في ملف تبادل الأسرى أو الإفراج عن المختظفين وكذا حل إشكالية المرتبات وتسهيل وتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية الخ.
ولعل تشكيل لجنة برئاسة حكومة يعكس مدى تعقد إشكالية " معركة الساحل" التي كانت مجرد هرج ومرج رافقها ضجيج إعلامي مبالغ به من قبل التحالف تحديداً أكثر من كونها معركة حسم حقيقية وكأنها حرب تحريك وليس تحرير.
على خلفية مسوغات واقع الحال يبدو أن الأسابيع التي تسبق الذكرى الرابعة لسقوط صنعاء ستحدد كيفية الحل السياسي والمسار التفاوضي الذي يعتقد البعض بأنه شكلي قد لا يفضي لنهاية سعيدة لأنها الحرب .
فبينما يعتقد محللين ومراقبين للشأن اليمني بأن الإمارات قد خرجت عن النص في أكثر من مرحلة خلال فترة الحرب التي دخلت عامها الرابع ، وبأنها في حالات صدام وخلاف مع شركائها في التحالف والإدارة الأمريكية وبالتي مع حكومة الشرعية، والواقع ان ذلك مجرد تكهنات واختلاف في بعض التفاصيل لكنها في واقع الحال في خلاف واضح مع حلم اليمنيين في استعادة الدولة التي شنت الحرب تحت هذا العنوان.
وبداهة هناك تباينات تتجلى من وقت لآخر فأفكار المبعوث الأممي " مارتن كريفت" التي نقلها عن حكومة الرئيس هادي تشترط تسليم الحوثيين للحديدة بلا قيد أو شرط في حين رؤية الحوثيين تتمحور في مسارين فالحل في الحديدة حسب رؤيتهم من خلال دور مفترض للأمم المتحدة لإدارة الميناء تختزل دور المنظمة الدولية في دور حصالة الرسوم الجمركية وتوريدها للبنك المركزي في صنعاء !.
ويأتي ذلك من وجهة نظر الميلشيا في سياق رؤية أشمل لما يسموه حل شامل بالطبع من وجهة نظرهم ايضاً ويعزى تفسير ذلك ان تحرك المبعوث الأممي مجرد واجهة لرؤية اعمق للانقلابيين مستغلين سخونة الأحداث وتداعياتها الإنسانية وبالتالي تركيز الاهتمام الدولي بالجانب الإنساني وهو حق أريد بت باطل فمن باب معاناة الشعب اليمني في الحديدة وسواها غدا مدخل لمزيداً من الضغوط على الشرعية والتحالف في آن واحد قد تفضي لفرض حل شامل يراد ان ينتهي بتسوية سياسة لتقاسم السلطة تحت لافتة" التوافق" هذا إذا افترضنا تمت المفاوضات فعلاً والتي قد لاتكون مجرد نسخة معدلة لمبادرة وزير الخارجية السابق " كيري" التي أعقبت مفاوضات الكويت مع اختلاف بسيط هذه المرة لمستجدات طرأت في المشهد.
التموضع السياسي لحكومة الشرعية بتعيين وزير للخارجية يأتي في هذا السياق لإدراك الحكومة بأن الفعل الدبلوماسي في هذه المرحلة يقتضي تحرك سريع لحشد الدعم السياسي، فالنشاط الدبلوماسي في وقت السلم لا يقارن بتحركه في وضع طبيعي وذلك على خلفية تعقيدات المشهد السياسي وتداخل الفاعلين في الإقليم والمجتمع الدولي خاصة وأن الخصم الرئيسي هو مجرد ميليشيا ولا يرقى حتى لمسمى حزب ولأنها جهة غير معترف بها فهى بمنأى عن المساءلة او العقوبات التي قد تتعرض لها الأنظمة السياسية فالانقلابيين هم مجرد " سلطة أمر واقع" مستغلة التناقضات والخلافات المحلية والدولية ، ولا مناص أن تتعامل الحكومة اليمنية بحنكة وجهد مضاعف فلا يمكن التحرك واتخاذ أي قرار سياسي ودبلوماسي بمعزل كل هذا وتجاهل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية لفرض رؤية نعتقد إنها مثالية فلابد من التماهي مع الآخر والذي له نفوذ على واقع ملموس في بؤر متعددة ومنها اليمن.
فبقدر ما نتج عن سلبيات ونقاط ضعف في أداء الحكومة من أهمها غياب الحكومة لوقت طويل بعد تحرير عدن والتجاذبات مع أطراف التحالف فأن عزم الحكومة على حشد الدبلوماسية والاستفادة من خبرة الوزير اليماني الذي عرف بحنكة وخبرة في المحافل الدولية وعلى خلفية وطنية تؤمن بالدولة المدنية وفي هكذا ظرف تستدعي الفطنة والتريث والاستشارة بيتلمس طريق السلام وكأنه يمشي في طريق ملغم بالأشواك ، وإدراك القيادة بأن الحرب لم تعد كما كانت في الماضي فالحسم العسكري المستند لحق قانوني لا يكفي في عالم اليوم طالما أن الوضع يرزح تحت رؤية دولية وسياسة لا تتماهى مع أماني الشعب.
مد يد السلام ومنح الانقلابيين فرصة جديدة حسب رؤية الوزير اليماني بقوله: وأردنا في الوقت نفسه إبطال أي ذريعة قد يروجون لها بأننا لا نسعى للتهدئة أو لا نكترث لحياة المدنيين، فالحكومة لا تمانع بوجود نوع من الحضور الأممي في الميناء للإشراف والمساعدة الفنية لتشغيله واستعادة طاقاته التشغيلية التي عطلها الحوثيون , وأن يسهم في إيصال المساعدات، ووصولها لجميع اليمنيين حتى المتواجدين منهم بمناطق سيطرة الحوثيين , المهم هو ألا يظل الميناء معبرا لوصول السلاح”.
ولأن تجربة الدولة مع الميلشيا في محطات سابقة أبرزها فرض ما عرف باتفاق السلم والشراكة على اسنة الرماح فلهذا يؤكد وزير الخارجية بقولة " أننا لا نتحدث الآن عن تدابير سياسية وإنما تركيزنا الأساسي حول التدابير العسكرية والأمنية…ربما فيما بعد قد يكون هناك حديث عن تفاهمات سياسية تضمن للانقلابيين أن يظلوا جزءا من مستقبل اليمن ومنظومة الحكم”.
وفي سياق آخر يضيف وزير الخارجية اليماني : لم تسفر مفاوضات المبعوث الأممي مع الحوثيين عن أي طرح جدي يمكن البناء عليه، رغم كل ما يبديه الرجل من تفاؤل … لقد قدم لهم خطة لتجنيب مدينة الحديدة أي معارك مسلحة خلال تقدم قوات الحكومة اليمنية وقوات دول تحالف دعم الشرعية المساندة لها لتحرير المدينة.
خارطة الطريق الأممية التي روج لها قبل اكثر من عام يراد تدويرها اليوم بصيغ مشابهة وهي في الحقيقة ستكون نسخة مهذبة لـ"اتفاق السلم والشراكة" فكلاهما يخرج من فوهة البندقية ، أي فرض أمر واقع لصالح الحوثيين، سواء قبل الحرب بسقوط صنعاء، أو ما يجرى اليوم من محاولة لـ " شرعنة" الانقلاب من باب "الحل السلمي" .!
و"السلم والشراكة" هو عبارة عن اتفاق سياسي رعاه المبعوث الأممي السابق ، جمال بن عمر، في اليوم ذاته الذي اجتاح فيه الحوثيون العاصمة صنعاء في 21 من سبتمبر 2014، ووقعت عليه الرئاسة اليمنية والقوى السياسية تحت الواقع الجديد في العاصمة "آنذاك"ورغم ذلك لم يطبق من جانب الحوثيين إلى الجانب وتقاعسوا في الجانب الأهم الأمني والعسكري.
من تجربة اليمنيين في التاريخ الحديث خلال النصف قرن الماضي هو أن النخب السياسة اعتادت التعامل في بحثها لحلول آنية تمنع مؤقتا الانفجار لكنها تتحول لبذة انفجار قادم فحرب تلد أخرى.
وعليه فإذا افترضنا إيجاد حل للحديدة بغض النظر عن تفاصيله في حال لم يكن بداية لحلول أخرى ينتهي بعودة العاصمة اليمنية صنعاء فما عدا ذلك سيكون تكرار لأخطاء الماضي وجعل اليمن كسيحا لعقوداً قادمة.
وكذا وفي حال افترضنا قبول الحوثيين بمبادرة الحديدة وانسحابهم من المحافظة سيخلف الظروف والأطر المناسبة لاستكمال تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2216 والذي يقوم في الأساس على انسحاب الحوثي من المدن والمؤسسات الحكومية وتسلم الأسلحة.
الأمر الذي سيعجل بنهاية الانقلاب وكل الإجراءات أحادية الجانب التي فرضتها الميليشيات بعد احتلالها للعاصمة صنعاء، وتالياً سينهي الانقلاب ويضمن سلاماً مستداماً. وفي حال تعنت الحوثيين فإن قوات الجيش الوطني والتحالف ستواصل تقدمها نحو تحرير المحافظة.
وفي حقيقة الأمر فأن رؤية الحكومة ووزير الخارجية تحديداً هي أيضا ليست جديدة بل أكد على ذلك في أكثر من محفل ففي كلمة له في ندوة بمعهد العالم العربي في باريس في العام الماضي يقول: "إن الحل للازمة اليمنية يجب أن يكون مستداما، ويقوم على قاعدة المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني وقرارات مجلس الأمن وفي مقدمتها القرار 2216، وبما يضمن استعادة اليمن المختطف من ايران".
الأوضاع في اليمن ومتطلبات السلام، أكدنا مرارا قبولنا بأفكار الكويت التي رفضها الطرف الانقلابي بالمطلق، كما رفضوا تقديم اي تصور يتصل بتنفيذ جوانب الشق الأمني وعلى رأسها الانسحاب ونزع السلاح بحسب تأكيد ولد شيخ احمد امام مجلس الامن في 26 يناير الماضي.
* كاتب وسفير في الخارجية اليمنية.