قلعة المصائر، وباب الخروج منها
الإثنين, 07 مايو, 2018 - 11:44 صباحاً

قبل مائة عام وقف كهل جزائري ليشاهد الحشود العسكرية الفرنسية وهي تمر في بلده. اقترب من ضابط فرنسي وسأله: ماذا تريدون من أرضي؟
أجابه الضابط الفرنسي، وهو مطمئن إلى إجابته: لقد جئنا لتعليمكم، وطبابتكم.
قال الكهل الجزائري، وهو في لحظة ذهول:
ولماذا أحضرتم كل هذا البارود، إذن؟.
 
سبق أن قرأنا في "مواسم الهجرة نحو الشمال" مقولة مصطفى سعيد عن المدارس التي فتحها الإنجليز في بلده:
لقد فتحوا لنا المدارس ليعلمونا كيف نقول لهم "نعم" بالإنجليزية.
 
الإشارة الجيدة في بيان الخارجية الإماراتية هي اعترافها بأن "مجرد" اتهامها باحتلال سقطرى هو أمر يشوّه سمعتها في المحافل الدولية. لقد ضغطت الحملة الشعبية على العصب العاري، وهذا أمر جيد.
 
استخدمت الإمارات تعبيراً متماسكاً "جماعة الإخوان المسلمين ومن يقف خلفها". لأول مرة تورد هذا التعبير غير متبوع بصفات أخرى، ولا بمزيد من الشروح. كما لو أنها كتبته لتنساه. بسرعة ورد الوصف نفسه، دون تعديل، في بيان المجلس الانتقالي حول ما يجري في سقطرى.
 
قبل نصف عام كتبت وسائل إعلام إماراتية، ومسؤولون إماراتيون، عن حزب الإصلاح قائلين إنه حزب يمني غير مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين. التقى "محمد بن زائد" بقيادات الإصلاح في الرياض، وتبادل الطرفان الوعود وبعض شفرات البِيبان.
 
يتفرع الإصلاح، أو هو آخذ في التفرع، إلى فرع قطري صغير وفرع سعودي يكبُر. لا يبدو اتجاه الإصلاح صوب السعودية تكتيكياً هذه المرة. الأخيرة تعلم أنه ليس بمقدورها تعديل الجغرافيا ونقل اليمن إلى مكان آخر في العالم، وليس أمامها سوى أن تقبل "الولاء نصف المشروط" الذي يقدمه كهول الإصلاح. والإصلاح يدرك، بعد تلاشي الربيع العربي وانهيار ثورة 11 فبراير، أنه بحاجة إلى تغيير خارطة حلفائه. هذا العرض المتبادل للصداقة، أو الصداقة الوشيكة، يبدو مفهوماً من وجهتي نظر منطقية وعملية.
 
الأمر نفسه لم يفلح مع الإماراتيين. قبل عامين وصلتني رسالة من أحد القادة الإصلاحيين الكبار. كان سعيداً لأن "لغماً" أودى بحياة مقاتلين إماراتيين وإصلاحيين في عدن/ لحج، في الوقت نفسه. تحدث عن "اختلاط الدماء"، وبدت تلك اللغة مبتذلة بالنسبة للإماراتيين الذين لا يفكرون بإقامة أي علاقة مع حزب الإصلاح، ولا مع غيره من الأحزاب التي تصر على فكرتي "الدولة والمؤسسة". الإماراتيون لا تغويهم مثل هذه الرومانسية، فهم دائماً على عجلة من أمرهم، خارجون للتو من مول أو داخلون فيه.
 
لا يتعلق الأمر بصراع في الإيديولوجيا، فالإمارات دولة مناهضة للإيديولوجيا، أنتي ـ إيديولوجيا. تفكر الإمارات، وهي تبحث عن الحلفاء أو تصنعهم، في الجهة التي بمقدورها أن تؤمن لها أكبر قدر من المصالح بعيداً عن السلطة المركزية للدولة. تسلك الإمارات السلوك الإيراني، الدولتان تتحركان على مستويات تحت دولتية، ولا تحبذان العلاقات المباشرة مع الدول. يبدو المجلس الانتقالي خياراً استثنائياً، وكذلك بعض التنظيمات السلفية التي اعتادت على الحياة داخل بلدها كما لو أنها جالية لبلد آخر.
 
الذاكرة تساهم في رؤية الأشياء على نحو مختلف. فالسعودية لا تزال هي "أرض الحرمين"، كلما اتجه المرء يميناً داخل حزب الإصلاح، بخلاف الإمارات التي يرى إليها اليمين الإصلاحي بوصفها دولة تقوم على "الرقص والربا".!
 
لو أن القوات السعودية هي التي انتشرت في الأراضي السقطرية لكان جزء كبير من حزب الإصلاح قد غادر الحملة الشعبية المطالبة بخروجها. في الأسابيع الماضية التقى مسؤولون كبار، ثلاثة محافظين وضباط يمثلون رئاسة الأركان، بقادة سعوديين. طلب منهم السعوديون، بالأمر المباشر، "المزيد من التجنيد". وفي الحال، قام الجانب اليمني بسلق كتائب جديدة.
 
يهندس السعوديون، شمالاً، أموراً كثيرة لها علاقة بالسيادة وبالكرامة أيضاً. يعمل "الإصلاح السعودي" على تمرير كل ذلك عن طيب خاطر. يعتقد الإصلاح أن ثمة شكلاً من "المصائر المشتركة" مع السعودية، وهو يبدو مرتاحاً لهذه الأقدار التي وإن سلبت منه قدراً من "شرفه الوطني" إلا أنها تؤمن له درجة من مصالحه الوجودية.
 
المسألة اليمنية هي أيضاً سؤال سعودي. لكنها بالنسبة للإمارات شأن في "النفوذ الاستراتيجي". تسيطر موانئ دبي على أكثر من 70 ميناء في العالم، ولا توجد إشارات تقول إن الإمارات ساهمت في إنعاش أي من تلك المدن الـ"70" التي تهيمن الإمارات على موانئها. التاجر الذي يضع قدميه على الميناء سرعان ما يلقي ببصره إلى البحر، لا إلى الوراء.
 
تبدو الخشونة "الإصلاحية" تجاه الإمارات في جانب منها كردة فعل على رفض الأخيرة للصداقة التي عرضها الإصلاح خلال ثلاثة أعوام. لا تريد الإمارات أصدقاء جدداً، بل "بروكسي". فهي تاجر على عجلة من أمره، لا علاقة له بالسرديات الكبيرة ولا القصص المركزية. تمارس الإمارات شكلاً رديئاً من الإمبريالية، دون سابق خبرة بالجغرافيا ولا معرفة بحقائق الشعوب. في المسألة اليمنية تحاول، مجتهدة، تفكيك العقد التي تواجهها إلى مستوى "الصراع مع الإخوان المسلمين"، وإعطاء هذه الفكرة القدر الأكبر من الاهتمام، كي تهرب من الأسئلة القادمة من الخارج، ولتعزل القوى الداخلية عن قضاياها.
 
في المقابل يسترخي الإصلاح أمام السعودية أكثر من ذي قبل، مستنجداً بها، كما يحاول النفاذ من خلال إلى مستويات معينة إلى داخل النظام السعودي لشرح الأطماع الإماراتية التي: "ستضر بالسعودية، ولا شك".
 
تشير الصحف الدولية إلى حزب الإصلاح بهذا الوصف "حزب الإصلاح، أكبر حلفاء هادي". هو أيضاً يصير إلى أكبر حلفاء السعودية. من هادي والسعودية يستمد الإصلاح صلابة جديدة، الصلابة المشروعية. هذه الحقائق تصيب الإمارات بالتوتر، فهي تجد نفسها أمام تنظيم مرن وذي خبرة واسعة في إدارة التناقضات والتعقيدات. بالطبع، فقد أتاح ربع قرن من "السياسة المفتوحة" في اليمن للحزب فرصة نادرة للمران.
 
تفقد الإمارات القدرة على ضبط أعصابها أمام ديناميكية حزب الإصلاح، وتقع في أخطاء فادحة كما حدث في عدن ومؤخراً في سقطرى. في أحداث يناير الأخيرة اضطرت الإمارات إلى قبول الرؤية السعودية: إعادة كل معسكرات هادي، وإخراج قادة المجلس الانتقالي من عدن. حاولت الإمارات الخروج بمكسب بسيط على مستوى "إقالة الميسري"، غير أن هادي وهو يرى الإمارات قد حشرت في الزاوية، رفض هذا الشرط.
 
في المحصلة خرجت الإمارات من تلك الأحداث بخسارة جسيمة، وعادت الحكومة. سمع بن سلمان تعليقات كثيرة حول تلك المعركة العبثية في جولته الدولية الأخيرة. الآن في سقطرى تجد السعودية نفسها أمام تعقيد جديد يصنعه الحليف الإماراتي. بالنسبة للإمارات فقد فقدت للمرة الثانية قدرتها على ضبط أعصابها وهي ترى الحكومة تمارس "السيادة" في أقصى البلاد، وهي التي اعتقدت أنها قد دفعتها خارج العاصمة البديلة.
 
التوتر الإماراتي جعل الإمارات تؤسس "حرس جمهوري جديد" بقيادة طارق صالح. أغلب الظن أنها تقف، بصرامة، خلف ابتعاد طارق عن الحكومة الشرعية. الحرس الجمهوري هو تعقيد جديد تضيفه الإمارات إلى المشهد، وإلى تدبيراتها هي شخصياً. طارق صالح هو ضابط محترف، وهو أيضاً ضابط جمهوري "وحدوي". انخراط طارق مع العصابات الحوثية لم يدم طويلاً، فهو يدرك أنه ليس بمقدوره العيش خارج مشروع للجمهورية. هو ، الآن، تحدّ بسيط أمام الحكومة الشرعية، وبإزالة الضغط الإماراتي فإنه سيسارع إلى العمل مع الجيش الوطني والرئاسة كما فعل عمّه. لكنه بالنسبة للإمارات، وللمجلس الانتقالي، مشكلة حقيقية. فمن غير المتوقع أن يؤيد الحرس الجمهوري النوازع الانفصالية للمجلس الانتقالي، أو أن يقف محايداً في تلك المسألة الحساسة بالنسبة لطارق. أيضاً العمل على إنشاء "حرس جمهوري" ليعمل كبروكسي هي مغامرة ساذجة من قبل الإمارات، قد تكون جيدة لعامين أو ثلاثة وليس على المدى الطويل.
 
هناك خط واضح: استعادة الدولة، عودة السياسة، وإنعاش الحياة. التعقيدات التي تخلقها الإمارات تدفع العربة لمغادرة القضبان من وقت لآخر، ذلك أنها غير معنية بكل ذلك. هي دخلت في مغامرة إمبريالية أكبر من أدواتها، ولإبطال مفعول النظام السعودي الجديد عقب موت الملك عبد الله. إذ أكثر ما كانت تخشاه هو أن يهبط الملك الجديد بالعلاقة السعودية الإماراتية إلى مستويات متدنية رداً على سياسة الملك الراحل. يقول تقرير مهم إن بن زائد انتظر عشرة أيام حتى يسمح له الملك سلمان بمقابلته أثناء تجهير الأخير لعاصفة الحزم. تردد مصر وباكستان ودول أخرى أتاح للإمارت فرصة لـ"إغداق" رشاويها للنظام السعودي الجديد، وهو ما أربك ذلك النظام حتى الساعة.
 
آلت اليمن، بفعل كل هذه التناقضات، إلى قلعة المصائر المتقاطعة. ثمة مصائر ومشاريع متقاطعة ومتناقضة تفرز تعقيدات جديدة كل بضعة أيام. أمام هذه الواقعية المحيرة على القوى الوطنية، كلها، أن تحشد نفسها داخل "كتلة تاريخية" ثانية، على غرار ما فعله اللقاء المشترك سابقاً. وأن تقفز هذه الكتلة الجديدة إلى قمرة القيادة.
 
عدا ذلك فإن العربة ستغادر القضبان وقد يصبح من غير الممكن إعادتها مرة ثانية إلى السكة.

*من حائط الكاتب على فيسبوك 

التعليقات