شكّلت جدلية "المابعديات" إحدى أهم مراحل وظواهر الجدل العلمي والثقافي طوال العقود الثلاثة الماضية وحتى اللحظة؛ فمن "ما بعد الاستعمار" إلى "ما بعد الحداثة" و"ما بعد الصهيونية" و"ما بعد الإسلام السياسي"، كلها مقاربات مسكونة بتفاعلات اللحظة المعيشة فحسب دون النظر إلى تداعياتها من منظور علمي شامل.
وقد جاءت مرحلة أسموها "ما بعد الإسلام السياسي"، ودخلت مرحلة اختبار حقيقي حينما قاربت هذه النظرية تخوم هذه الظاهرة الهوياتية الاجتماعية المعقدة.
مثّل كتاب "فشل الإسلام السياسي" للباحث الفرنسي أوليفيه روا أول مظاهر الاستعجال العلمي في الحديث عن ظاهرة معقدة بشيء من الاستعجال والتسطيح، الذي حول العمل البحثي الأكاديمي الرصين إلى ما يشبه عملا صحفيا لا هدف له سوى استباق الأحداث بصنع الحدث وعنونته بالمانشيت العريض، بغض النظر عن جدية المصدر وصوابية الخبر.
ثم جاء بعده مباشرة الباحث الفرنسي أيضاً جيل كيبل بكتاب عنوانه "انتشار وانحسار الإسلام السياسي"، وكلا الباحثيْن اعتمد قراءة سريعة ومستعجلة لتداعيات الانتخابات الجزائرية مطلع التسعينيات، حين فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتم الانقلاب على نتائج تلك الانتخابات في جولتها الأولى، وإعلان حالة الطوارئ وتفجر حرب أهلية طاحنة (العشرية الحمراء).
وفي المقابل؛ كان هناك صاحب الأطروحة التفسيرية المغايرة تماما والمعارضة لأطروحة "ما بعد الإسلام السياسي"، وهو الفرنسي فرانسوا بورغا الذي كان له موقف مناهض لهذه الأطروحة، طارحا بديلا تفسيريا أقرب إلى الواقع بحديثه عن أن الإسلام السياسي ليس مرحلة وإنما هوية مجتمعية، عدا عن كونه صوتا معارضا للاستعمار؛ وقد عبّر عن مقولته هذه من خلال كتابه الأشهر "الإسلام السياسي: صوت الجنوب".
ولم يقف بورغا هنا في رده على تهافت أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي"، كمدخل للتعاطي مع الظاهرة الإسلامية أو ما يسمونه "الإسلام السياسي"؛ فقد ذهب إلى تحديد ثلاثة عوامل رئيسية مصاحبة ومساعدة في استمرار ظاهرة الإسلام السياسي.
أولها: أن استمرار الظروف الاجتماعية والاقتصادية الراهنة في العالم العربي والإسلامي كفيل باستمرار وجود تيار الإسلام السياسي. وثانيها: قدرة الإسلاميين على إنتاج خطاب داخلي بشأن الحداثة لتعبئة جمهورهم وأنصارهم. وثالثها: وجود أنظمة تضخم خطر التهديد الإسلامي وتتلاعب به.
وفي نفس السياق؛ كان هناك الباحث الفرنسي الشهير آلان روسيون الذي رفض هو الآخر أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي"، لكنه لم يفعل كما فعل بورغا بطرح رؤية تفسيرية للقضية من وجهة نظر لا تختزل الظاهرة في إطار نظري شامل، وتقيم على أساسه رؤيتها التفسيرية المطلقة للظاهرة تكون غير قابلة للنقاش والبحث والاختبار؛ وهو ما ترك مثل هذه الرؤية في حالة من اللايقين العلمي والمنهجي.
وتبقى رؤية روسيون في رفضه أن تفسر مقولة "ما بعد الإسلاموية" جميع الظواهر الدينية والسياسية الحالية في العالم الإسلامي، وأن يكون من شأن عموميتها أن تخفي ما يمتاز به مسار المجتمعات الإسلامية من تعقيد وتركيب؛ هذه الرؤية إذن تبقى الأقرب لخصوصيات المجتمعات وخلفيات الباحث المنهجية والثقافية وزوايا انطلاقه في فهم وتفسير الظاهرة.
ومن هذا المنطلق أيضاً؛ كانت رؤية الباحث المصري الراحل حسام تمام، الذي دعاه (عام 2007) مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية (بالقاهرة) للتعقيب على ورقة عمل قدمها روسيون ذاته وكان عنوانها: "في انتظار ما بعد الإسلاموية"؛ فكانت ورقة التعقيب من قبل تمام بعنوان: "في انتظار الغائب الذي لا يجيء: نماذج تتحدى فرضية ما بعد الإسلام السياسي".
ومن خلال هذه الورقة؛ رأى حسام تمام أنه يجب عدم القطع والتسليم بمثل هذه المقولات المطلقة كانتهاء الإسلام السياسي، وأن يتأسس منظور مختلف ينبع من خصوصية الباحث العربي المسلم في رؤيته للظاهرة الإسلامية، ويمكن أن يكتشف من خلاله اختلاف مناهج النظر وموقع السياسة في مشروع الحركة الإسلامية.
وبحسب تمام؛ فإنه "يمكن القول إنّ المشروع الإسلامي خسر على مستويات مختلفة: الوصول للسلطة، ثم اقتراح نمط أو شكل جديد للسلطة، إضافة إلى تنازلات مؤلمة دفعها في رحلته للوصول إلى السلطة. لكن على مستوى فكرة السياسة أو البعد السياسي في الحركة الإسلامية، أخشى أن هناك خطأً كبيراً في إطلاقية القول بـ‘نهاية الإسلام السياسي أو ما بعد الإسلاموية‘، مردّه الأساسي هو التعميم وعدم إدراك تركيبية الحالة الإسلامية وتعقيدها".
ولا يغفل -في هذا السياق- المقاربة التي سبق أن طرحها عام 1996 الباحث الأميركي ذو الأصل الإيراني آصف بيات، في مقال شهير له بعنوان: "قدوم مجتمعات ما بعد الإسلام السياسي"، وطورها لاحقا إلى كتاب صدر عام 2007 بعنوان: "جعل الإسلام ديمقراطياً: الحركات الاجتماعية وخطاب ما بعد الأسلمة".
وقد اقتصر على مقاربة الحالة الإيرانية وتحولاتها من الإسلام السياسي الشيعي إلى ما بعد الإسلامية، وكانت مقاربة مشدودة لحركة المجتمع الاحتجاجي الرافض لحكم نظام الولي الفقيه، والتي توجت لاحقا بما عرف بـ"الثورة الخضراء" عام 2009.
لكن المقاربة التي وضعها بيات كانت ترتكز بدرجة رئيسية على فكرة أن هذه التحولات التي تشهدها الحالة الإسلامية السياسية، تتموضع حول فكرة أن حالة "ما بعد الإسلام السياسي" ليست مجرد شرط، بل هي أيضا مشروع: أي محاولة واعية لوضع تصور وإستراتيجية لمنطق وطرائق السمو على "الإسلام السياسي" في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
ومع ذلك؛ فإن حالة "ما بعد الإسلام السياسي" ليست معادية للإسلام أو غير إسلامية ولا حتى علمانية، ولكنها تمثل مسعى لدمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر.
أي أنها بحسب بيات نفسه محاولة لقلب مبادئ "الإسلام السياسي" الأساسية رأسا على عقب، وذلك عبر التركيز على الحقوق بدلا من الواجبات، والتعددية بدلا من السلطة الفردية، والتاريخية بدلا من النصوص الثابتة، والمستقبل بدلا من الماضي.
إنها تريد عقد مزاوجة للإسلام مع حق الفرد في الاختيار والحرية، ومع الديمقراطية والحداثة (وهو أمر تركز عليه حالة "ما بعد الإسلام السياسي")، لتحقيق بعض ما وصفه البعض بـ"الحداثة البديلة".
ومثل هذه المقاربة التي ربما تعجل الكثير في وضعها كإطار نظري ومدخل تعريفي مفتوح لكل تفسيرات ظاهرة "الإسلام السياسي"؛ تبقى مقاربات مستعجلة في إطلاق الأحكام على ظاهرة قبالة للتحول والتبدل، وتسيطر عليها خاصية الثبات أكثر من خاصية الدينامية الاجتماعية، التي تسم المجتمعات وطبيعة تحولاتها وتفاعلاتها السياسية والاجتماعية المعقدة.
الأهم في الأمر هو أن الظاهرة الإسلامية متنوعة ومتعددة بشكل كبير ولافت، ليس على مستوى الظاهرة ككل بل وعلى مستوى الجماعة والتيار الواحد هناك تباين كبير وأكثر من توجه داخل الجماعة الوحدة؛ فكل يرى أنه الأقرب إلى التفسير الصواب للفكرة، مما يضعنا أمام حالة متنوعة يصعب معها القياس والحكم على الظاهرة ككل.
فعلى سبيل المثال والملاحظ؛ في الحالة الإخوانية ثمة تياران حاكمان لها: التيار التنظيمي الذي يجد صعوبة في قبول وتقبل الفكرة الديمقراطية التعددية؛ والتيار الثقافي والسياسي الذي غدا عرابا ومناضلا من أجل هذه الأفكار والإيمان بها، كمخرج للمأزق السياسي المعاصر في المنطقة ككل.
في المقابل؛ لا يخفى على المراقب بروز شريحة نخبوية شابة في القلب الحركة الإسلامية، ولكي نكون أكثر دقة نقول إنها قادمة من قلب حركة الإسلام السياسي وفاعل إعلامي وثقافي كبير فيه، وكانت جزءا لا يتجزأ من شرارة ثورات الربيع العربي.
وبلورت جزءا من شعارات هذه الثورات، مثل شعارات: العدالة والحرية والكرامة والمواطنة المتساوية. وقد وجد جل شباب هذه الشريحة أنفسهم وجها لوجه مع مقارعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تناسب توجههم ومزاجهم وسقف طموحاته المرتفع.
وهذه الشريحة النخبوية الشابة ليست معزولة عن ظهير فكري تنظيري عالي المستوى في قلب الحركة الإسلامية، وممن ينظر في هذه المرحلة لضرورة الفصل أو التمييز بين السياسي والدعوي، وضرورة مغادرة حالة التيه -التي وجدت الحركة الإسلامية نفسها داخلها بسبب الاشتباك السياسي والدعوي القائم على فكرة دولة الشريعة والحاكمية- إلى دولة الحقوق والحريات المدنية.
لكن هل تعني مقاربة الفصل أو التمييز بين السياسي والدعوي -فيما تعنيه- أننا أمام مرحلة "ما بعد الإسلام السياسي" بكل تجلياتها، وانحسار الحالة الإسلامية الدعوية والسياسية في إطار حزب سياسي كغيره من الأحزاب البرامجية، على غرار الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا؟
هذا السؤال أيضاً بحاجة إلى مقاربة أكثر دقة لتفكيك زاوية الإشكال القائم في المجتمعات العربية والإسلامية، فيما يتعلق بجذر الإشكال القائم والمتعلق بظاهرة الاستبداد السياسي الجاثم على صدر هذه المجتمعات منذ عقود عدة، قبل الحديث عن أخطاء وتعقيدات الظاهرة الإسلامية وخلطها بين الديني والسياسي.
وبمعنى آخر؛ فإن الحديث عن ظاهرة "ما بعد الإسلام السياسي" كواقع لا يمكن معه الهروب من مقولة فيها الكثير من المبالغات وعدم الدقة، رغم بعض المؤشرات التي لا يمكن القياس عليها بشأن تحولات الظاهرة الإسلامية ككل. وبمعنى أكثر دقة؛ فإن بقاء ظاهرة الإسلام السياسي مرتبط جذريا بتعقيدات وتفاعلات الواقع السياسي للعالم الإسلامي ككل.
وذلك باعتبار أن الإسلام بقدر كونه دين شعائر تعبدية هو أيضاً مادة ثورية تحريضية نقيضة للظلم والاستبداد والاستكانة، مما يجعله مادة ووقودا لكل الحركات الثورية الاحتجاجية في مجتمعات الاستبداد السياسي التي فشلت فيها محاولات الانتقال السياسي والديمقراطي، كمجتمعات بلدان الربيع العربي التي أجهِضت ثوراتها المنادية بالدولة المدنية الديمقراطية.
*الجزيرة نت