لعلّ في طليعة منافع استعادة التاريخ، والقريب منه بصفة خاصة، أنّ المرء يأنس إلى درس هنا أو يتعظ بعبرة هناك؛ فكيف إذا كانت تلك الاستعادة تخصّ حرباً عبثية دامية مثل هذه التي تجري في اليمن، سقط ويسقط فيها الآلاف، وشُرّد ويُشرد جراءها ملايين البشر، ويُدمّر عمران قرى وبلدات ومدن، وتستوطن أمراض وأوبئة ومجاعات.
وهذه حرب، في العودة إلى أصولها الأبسط، بدأت من تحركات شعبية محلية في أواسط العام 2004، قادها مَنْ سمّوا أنفسهم «منتدى الشباب المؤمن» يومذاك؛ ليس ضدّ سلطة علي عبد الله صالح، للمفارقة الدالة، بل احتجاجاً على الاحتلال الأمريكي للعراق وتضامناً مع الفلسطينيين.
ولكن لأنّ المنتدى كان قد تأسس لتدريس العقيدة الزيدية الشيعية، فإنّ بُعد المذهب اختلط سريعاً ببُعد المظالم المحلية حول سوء الخدمات في منطقة صعدة إجمالاً، وانقلبت التحركات تلك إلى تمرّد محلي يقوده حسين بدر الدين الحوثي، الشيخ القبائلي وكبير زعماء المنتدى. نظام صالح، للتذكير هنا أيضاً، حشد 30 ألف جندي لمواجهة هذا التمرد، وشنّ حرباً مفتوحة لم تقتصر على عمليات المشاة والمدفعية الثقيلة، بل شملت الطائرات الحربية والسلاح الصاروخي.
قُتل الحوثي المؤسس، ليصعد شقيقه عبد الملك، ويتحوّل المنتدى تدريجياً إلى «أنصار الله»، فتتجذر أكثر فأكثر ميول انخراطه في تيار التشيّع الإيراني، وينقلب استطراداً إلى مخفر جيو ـ سياسي للحرس الثوري الإيراني، وقطعة في الدومينو الذي تديره طهران علانية في لبنان والعراق وسوريا، وعلى نحو مبطن بهذا القدر أو ذاك في دول أخرى خليجية.
التاريخ أيضاً يقول إنّ علاقة الحوثيين بنظام صالح والأطراف المحلية اليمنية، وكذلك بالجوار العربي والإقليمي وخاصة السعودية، تأرجحت بين تنازع وتفاهم ومدّ وجذر؛ في أعقاب تحولات كبرى مثل التناغم بين مطالب الحوثيين ومطالب الحراك الجنوبي، ثم الانتفاضة الشعبية اليمنية وإسقاط نظام صالح، وتذبذب المواقف السعودية بين صالح والحوثيين وحكومة عبد ربه منصور هادي، طبقاً كذلك لتقلبات مزاج الرياض تجاه مجموعات الإخوان المسلمين من جهة أولى، ولتجاذبات المصالحة أو العداء مع طهران من جهة ثانية.
وبمعزل عن حُسن، أو سوء، استغلال قيادات الحرس الثوري الإيراني للعامل الحوثي، الذي صار دولة عليا ذات بطش وبأس وسلطة ضمن ما تبقى من دولة اليمن المركزية؛ لم يتبدل كثيراً جوهر صعود الحركة الحوثية، وبالتالي لم تنحسر براعة القيادات الحوثية في التشبث بذلك الجوهر، وإذكاء جذوته كلما خبت: أنّ للحركة الحوثية جذورها الاجتماعية العميقة، حتى إذا ابتدأت من مطالب مذهبية بسيطة مثل السماح بتدريس العقيدة وتداول كتبها، وفتح مدارس لتلقين أصول المذهب؛ والكفّ عن إجبار الزيديين على حضور خطب الأئمة «السلفيين» حسب الاصطلاح الحوثي.
وقد يقول قائل أنّ السلطات الحوثية أخذت، في مناطق سيطرتها الراهنة، تمارس طرائق التنكيل ذاتها ضدّ أتباع المذهب الشافعي، أو ما تبقى منه بالأحرى بعد أن صار مذهب الأقلية ونازعته المكانة مذاهبُ الحنبلية والسلفية وأهل الحديث؛ وهذا قول صحيح بالطبع، لكنّ دلالاته السياسية، ثمّ المطلبية، لم تعد ذات وزن حاسم في النزاع الراهن. والأمر، في نهاية المطاف، ليس اصطراع مذاهب ولا طوائف ولا حتى قبائل، وإنْ كانت لكلّ هذه العناصر تأثيراتها؛ بل هو في الأصل صراع اجتماعي وسياسي عميق وعريق، كان محتماً لجذوره أن تضرب في أكثر من أرض.
وبين المخفر الإيراني والمستنقع السعودي، يبقى أنّ الضحية الأولى هي المواطن المدني اليمني، الواقع في قلب تقاطع النيران دون إرادة منه ودون انحياز إلى طرف، خاصة وأنّ معادلات الاشتباك تزداد عبثية ودموية في آن معاً؛ حتى إذا تباينت، من حيث الحماقة والتدمير وإراقة الدماء، مفاعيل صاروخ بالستي وطائرة تقصف عرس زفاف.
*القدس العربي