المعطيات التي يسوقها مارك لوكوك، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة، حول الأوضاع الإنسانية في اليمن، يتوجب أن يقشعرّ لها أيّ بدن يحكمه ضمير؛ رغم أنّ الرجل يتعمد التخفيف، ما أمكن، من الأرقام الفعلية الفظيعة. لقد تحدّث، على سبيل المثال، عن أكثر من 22 مليون شخص في اليمن بحاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية أو حماية؛ وأنّ نحو 8.4 مليون شخص يعانون من انعدام أمن غذائي شديد، ومن خطر المجاعة؛ وحذّر من أنّ 10 ملايين شخص آخر سوف يلتحقون بهذه “الفئة” بحلول نهاية العام 2018.
بعض المعطيات التي يعفّ لوكوك عن ذكرها، حياءً أو إشفاقاً أو من باب الحرج الدبلوماسي، تشير إلى التالي: قضى أكثر من 150,000 آدمي جرّاء الافتقار التامّ إلى الغذاء والماء، بالنظر إلى لجوء التحالف السعودي إلى سلاح التجويع القسري كما تشير منظمة “أوكسفام”؛ وثمة طفل يموت جوعاً أو عطشاً أو حرماناً من الدواء كلّ 10 دقائق، وطفل آخر ينضمّ إلى “فئة” فقر التغذية كلّ دقيقتين؛ والبلد يسجّل المرتبة الأولى، على نطاق العالم، في عدد الإصابات بجائحة جماعية من “فئة” الكوليرا، فضلاً عن جائحة أخرى من “فئة” الخُنّاق…
كلّ هذه المعطيات (“الفئوية”!) كانت حصاد السنة المنصرمة، وللمرء أن يتخيّل مضاعفات العام 2019، في ضوء تشديد عمليات القصف والحصار وإغلاق منافذ توريد المساعدات الإنسانية؛ خاصة بعد عمليات الحديدة التي فشلت عسكرياً، ولهذا أنزلت المزيد من العقاب الجماعي بالمدنيين. فإذا أضاف المرء عاملاً خارجياً إقليمياً واحداً على الأقلّ، مثل التوتر الراهن بين واشنطن (حيث إدارة دونالد ترامب تدعم التحالف السعودي وترعاه وتسلحه)، وطهران (التي تعتبر حضورها العسكري داخل الحرب في اليمن جزءاً لا يتجزأ من سلّة نفوذها الإقليمي)؛ فإنّ معطيات الوضع الإنساني لن تكون سوى تحصيل حاصل، متعدد لجهة الأطراف المسؤولة عنه، وإنْ كان لطرف حصّة أفظع وأشدّ وحشية بالمقارنة مع سواه.
هنالك، إلى هذا، سلاح من طراز آخر أقلّ فتكاً على الصعيد القتالي المباشر، ولكنّ تأثيره يوازي بعض الأسلحة الكلاسيكية الفتاكة، خاصة وأنه نسيج وحده من حيث نطاق التأثير والفعالية. هذا هو سلاح العلاقات العامة، أو ذرّ الرماد في العيون كما تقول الفصحى، وقد لجأ إليه التحالف السعودي أسوة بالحوثيين؛ كلّ حسب إمكانياته بالطبع، وطرائقه وتقاليده. الفريق الثاني سعى إلى “خبطة” إعلامية مسرحية حين أعلن الانسحاب من طرف واحد في ميناء الحديدة، وكان جلياً لكلّ ذي بصر وبصيرة أنّ الحقيقة غير هذا. الفريق الأّول، ممثلاً في السعودية على وجه التحديد، استقرّ على خيار أكثر احترافية وأعلى كلفة، بما لا يحتمل المقارنة في الواقع.
وكان موقع أنباء IRIN (الذي صار اسمه الآن The New Humanitarian) قد أماط اللثام عن عقد بقيمة 1,5 مليار دولار أبرمته الرياض مع شركة علاقات عامة لتجميل صورة الحرب السعودية على اليمن، في طمس الكثير من جوانبها الوحشية ضدّ المدنيين، والتي تثير سخط الرأي العام العالمي، من جهة أولى؛ ثمّ تصوير هذه الحرب وكأنها تدخّل سعودي ضدّ الإرهاب والتطرف، وللدفاع عن النفس حصرياً، من جهة ثانية. وفي هذا الإطار كان اختراع “العمليات الإنسانية الشاملة في اليمن”، أو الـYCHO، خطوة أولى على طريق تصوير السعودية كمنقذ للشعب اليمني؛ فجرى استحداث موقع لهذه الخطة، وتوزيع آلاف الرسائل الإلكترونية على جهات سياسية وحكومية وإعلامية، ومنظمات مجتمع مدني، وأفراد نافذين.
صحيح أنّ الكوارث الإنسانية في اليمن تنطق عن ذاتها، ببلاغة قصوى وأياً كانت محاولات التعمية والتزييف وذرّ الرماد على الدماء؛ إلا أنّ للحروب مسارات أخرى عرفها التاريخ على الدوام؛ ولم يكن عبثاً ثبات ذلك المثل السائر الذي يؤكد أنّ الحقيقة تظلّ أولى الضحايا، غير البشرية، في أية حرب.
*عن القدس العربي