من الواضح بأن آلة الإعلام الحوثية قد أعدت فيلم "الوجه الآخر لعلي عبدالله صالح" قبل مقتله باعتباره توليفه وتجميع معلومات موثقة لا شك ان تستغرق وقتاً وقد استند هذا التوثيق لشهادات سطحية ليمنيين وفلسطينين وميلشيات ممن تصنف برموز "محور المقاومة" وهو مصطلح سياسي طارئ على قاموس الإعلام العربي غداة تداعيات الربيع العربي ، مع ان حقيقة الأمر هو محور إيران.
أما عن محتوى الفلم رغم سخافته مقارنة بكل ما حدث ويحدث لليمن لا بد من طرح سؤل : لماذا لم تفضح قناة المسيرة والإعلام الحوثي عموماً الرئيس السابق صالح بعد سقوط صنعاء وتحكمها في مفاصل الدولة .. ام أن مبدأ التقية قد أجل ذلك لحين تحالفهم معه حتى تموضعهم بصورة كاملة !
التوقيت يفضح النوايا الحوثية فإذا كانت تعتقد بأن صالح "عميل لإسرائيل" يشدنا هذا لتساؤل آخر وأهم : لماذا تحالفت مع هذا العميل وقاتل سيدها حسين وشن ضد حروب عبثية ضدها ؟
نحن كيمنيين ما يهمنا هو ما وصلنا إليه من حالة يرثى بعد تواطئ صالح والدولة العميقة والتي يعتبر هادي نفسه احد حلقاتها الضعيفة ، أما قضية تهمة العمالة لإسرائيل فأغلب الحكام العرب بصورة أو بأخرى يعتبرون التواصل مع إسرائيل سراً او علناً هو "فضيلة سياسية" إذا جاز لنا التعبير ..اكبر تهمة تدين صالح هي تواطئه مع الحوثي نفسه بعد ان أسس لدولة عميقة أنتجت واقعاً ملموسا وما الحوثي وهذه الحرب إلا نتاج لتراكم فساد أربعة عقود مضت .. بينما اليوم الحوثي يؤسس لدولة عميقة بديلة خاصة به بتجذره في مفاصل الدولة ليكون بديلاً لما أسس له الرئيس السابق .
الفلم إذا وفق مسوغات واقع الحال ليس له قيمة كما يتمنى إعلام الحوثي فلن يكن له بعد وتأثير جوهري إلا في أوساطهم وأتباع الرئيس السابق لأنهم في مجمل ملة واحدة !
باعتبار آلة الإعلام للطرفين يعتمدان الديماغوجية وأن اختلف نهج الحوثي الشمولي.. فلم يعد اليمني الواعي يهتم بمثل هكذا دعاية رخيصة ذو حدين فضح حليفهم صالح وفي نفس الوقت إيهام الرأي العام المضلل بأنهم البديل المناسب بذريعة التشدق بمفردة " السيادة" ومواجهة " العدوان" مع ان ميلشيا الحوثي هي اكبر عدوان على اليمن ، وما تخاذل وتأمر التحالف إلا نتيجة وليس سبب وتحصيل لحاصل لتراكم فساد أربعة عقود مضت .
فقط المتابع السطحي سيفاجئ بهذا الفلم السخيف في قناة المسيرة الحوثية وكأن إعلام شيعة الشوارع تذيع سراً وهو من باب "البراقوندا" التجميلية لهم وتشويه خصمهم " حليفهم" سابقاً " وعدوهم " الأسبق" ! وهو أي الفلم سلاح ذو حدين في حقيقة الأمر أي موجه في الوقت ذاته لأنصارهم من جهة وبعض المتأثرين والمخدوعين من اليمنيين سوا المؤتمرين او عامة الناس بشخصية علي عبدالله صالح الكاريزمية والذي يعتبر فسادا ناعماً بديماغوجيته المعهودة في حين تمثل سلطة الأمر الواقع الحوثية فسادا وظلم خشن في شكل نظام شمولي مفضوح !
ولان تاريخ الحوثي حافل بالغدر حتى لمن تماهى معه فيفترض أن يُنصب لحليفهم السابق تمثالاً لإدخالهم الإمامة للقصر الجمهوري بدبابات الحرس الجمهوري !
ففي الوقت الذي غدت قناة اليمن في صنعاء وهي النسخة الحوثية تركز فقط حول مفردة "الصمود أمام العدوان " فأن توأمها " قناة اليمن اليوم" الممولة خليجياً تنتقد عرض ما أسمته التشويه بسمعة ورؤية " الزعيم" القومية تجاه القضية الفلسطينية فتعرض مشاهد لقأت صالح مع ياسر عرفات وخطب في القمم العربية وكلها بالطبع تندرج وفق مفاهيم الخطاب الديماغوجي لجمهوريات العسكر العربية التي نظام صالح ماهو إلا احد هذه الأنظمة الشمولية التي عفى عنها الزمن .. والتي عزفت على وتر سيكلوجية الجماهير العاطفية بالخطب الرنانة الخادعة لمن يبحث عن دور وزعامات زائفة وتمجيد الغير ممجد في زمن تقزيم العمالقة..
الأمر الأخطر في الفلم الذي عرضته "قناة المسيرة" لم ينتبه أحدا ويفطن بأنه ركز على تسليط الضوء على الرئيس السابق من زاوية مواقفه من القضية الفلسطينية ولم يهتم كثيرا بقضية تبنيه ملف "الإرهاب" نيابة عن حكام الخليج وأمريكا في المنطقة لان الحوثيين أنفسهم يرمون من وراء ذلك جملة من الأهداف أولها أنهم يتهيئون لتبني مثل هذا الدور مستقبلا أي " ملف الإرهاب " مع جيران اليمن من دول الخليج في حال ضمن هذا الأخير ضمانات مؤكدة بعدم الاعتداء على السعودية في حالة تسوية مفترضة ومفاوضات ، وهو الأمر نفسه بين تطلعات الحوثيين في رؤيتهم كوكلاء أمنيين للإدارة الأمريكية فليس غريبا فهم شركا في الرؤية الأمنية من الزاوية الأمريكية تجاه القاعدة أو أي توجه إسلامي أصولي في اليمن هذا فيما يتعلق بمفردة " مواجهة الإرهاب " في حين الموقف من القضية الفلسطينية يعتبر من البديهيات ولعبة مفضوحة فلا يعقل ان أي تيار سياسي او قائد عربي يصرح علانية برغبته بعلاقات حميمة مع إسرائيل حتى ملوك النفط حاليا في سياق صفقة القرن يفسرونها من زاوية سلام مع إسرائيل وليس تنازلا عن الفلسطينيين من باب التلاعب بالألفاظ وتدغدغه عواطف العرب والمسلمين .
غدا واضحا عدم تركيز إعلام الحوثي بهذه الجزئية علاقة صالح بالغرب وقضية الإرهاب لأنهم يحلمون بأداء الدور نفسه مستقبلاً .
لقد زادت علاقة الريس السابق مع الإدارات الأمريكية المتعافية قوة وصلابة بعد أحداث 11 سبتمبر من العام 2001م بحيث أصبحت اليمن منذ ذلك التاريخ أفغانستان العرب باتفاق على ان تنتقل كل خلايا القاعدة في بلدان الخليج العربي إلى اليمن ليتم التعامل معها بحسب الطلب بالتنسيق بين صنعاء وواشنطن والرياض .
العلامة الفارقة في صناعة الزعامة الوهمية في جمهوريات العسكر العربية هي تقديس الحاكم لينتج حالة وعي جمعي يفكر حسب رؤية الحاكم ولا يتبين حجم الظلم والفساد إلا بعد رحيل هذا الحاكم .. فبين "صدام حسين" و"صدام الصغير" حسب تعبير إعلام مطلع التسعينيات ضاعت شعوب وانقلبت الامور رأساً على عقب ، مع الفارق بين نهج صدام حسين الذي حتى ليوم مماته كان على توجه واحد لم يحيد عنه وهو التصدي للمد الفارسي واعتبر العراق بوابة شرقية للأمة العربية أمام تيار شعوبي جارف ، في حين مواقف صالح خلال عقود كانت متقلبة تتماهى مع المد القومي حيناً وترتمي في حضن إيران حيناً آخر .. فانقلب بعد خروجه الشكلي من السلطة بصورة حادة على ما أعتاد عليه ليصبح في الخندق المعادي للأمة العربية فأدخل الإمامة للقصر الجمهوري بدبابات الحرس الجمهوري نفسه .!
وانقلب على حلفائه في في الخليج مع انه كان رجل السعودية والغرب في المنطقة .
ولا العبرة بالنتيجة وكما يقال بأن السياسة الخارجية غالبا ما تكون انعكاسا للسياسة الداخلية ، فطالما اليمن لم يؤسس فيه لدولة مدنية خلال أربعة عقود أي منذ نهاية السبعينيات وحتى مقتلة بل أسس نظام سياسي قوي وجيش مناطقي عائلي ذاب في أول امتحان ومنعطف مهم واحتوته الميلشيا الحوثية .
ومقولة ان السياسة الخارجية غالبا ما تكون انعكاسا للسياسة الداخلية فأن غياب التنمية وعدم تأسيس مداميك دولة مدنية خلال الأربعة عقود الماضية وإلا لما حدث كل هذا في حال انتقال سلسل للسلطة فقد كانت سياسة اليمن الخارجية خلال الأربعين سنة الماضية فاشلة بكل المقاييس من حيث الشكل أي كوادرها وأدواتها وخارطتها ومن حيث المضمون أي أهدافها وغايتها .
من سخرية الأقدار وسوء حظ اليمن بأن غزو صدام للكويت كان واليمن ترأس مجلس الأمن ولكن رغم ذلك كان يفترض تلافي ذلك الإحراج بسياسة الحياد وليس الهروب للأمام دون احتساب العواقب .. نتيجة ذلك تدهوره العلاقات اليمنية مع كل بلدان الخليج وخسرنا إيران في نفس الوقت وتم ترحيل ما يقارب المليون يمني من السعودية ودول الخليج تحت تلك الذريعة فخسرنا اقتصاديا وسياسيا لكننا كسبنا الزعيم لفترة إضافية وهي أكثر من عقدين من الزمن ليعبث باليمن .
ما اغضب الحوثيين والسعوديين على حد سواء هو بأن طموحات صالح لان يكون رجل أمريكا في جنوب الجزيرة بالتعامل معهم مباشرة وليس عبر وسيط " الرياض" وحتى الحوثي نفسه في حال افترضنا تقمص هذا الدور فلن يكون بمعزل عن وسيط هو إيران رغم ما يبدو بحالة قطيعة مع ملالي إيران ولكنه فقط إعلاميا لكنه استراتيجيا أمرا واقعا بدليل تواطئ إيران مع أمريكا في العراق وبعد إسقاط حركة طالبان فإيران خدمت أمريكا في بؤرتين شرقها أفغانستان وغربها العراق والعبرة بالنتيجة وليس بالضجيج الإعلامي .
دبلوماسية الجنائز !
معلوما بأن صالح كان يحلم بدور مهم في كسب ورضاء الإدارة الأمريكية من بوابة مصطلح "السلام في الشرق الأوسط" وذلك بمغازلة يهود اليمن في إسرائيل وأمريكا الذين ينحدرون من أصول يمنية تقربا من حيث سمح لهم بزيارة اليمن في تسعينيات القرن الماضي بإيعاز بتسهيل ذلك خلال سفارة اليمن في الأردن وكان يأتي حتى يهود يمنيين قاطنين في أمريكا وإسرائيل على حد سوا .. تزامن ذلك بمحاولة مصافحة صالح "شمعون بيريز" الرئيس الإسرائيلي الأسبق خلال جنازة الرئيس الفرنسي متران وحضور بيرز وصالح وكذا خلال تشيع جنازة الملك الراحل الحسن الثاني التي حضرها "شمعون بيرز" وكان الرئيس صالح حاضرا وعرفت وقتها في الإعلام العربي بدبلوماسية الجنائز !
اللافت انه وقتها رغم بداء تدفق السياح اليهود لليمن أصدرت الخارجية الإسرائيلية بيان تحذيري لمواطنيهم بعدم السفر لليمن رغم تلك التسهيلات اليمنية بحجة عدم توفر اليمن "رغم ان اليمن وقتها كانت نسبياً آمنة مقارنة بيمن ما بعد 2011" وكانت تستقبل سياح بإعداد هائلة قبل أفغنة صالح لليمن وحادثة تفجير السفينة الأمريكية كول وأحداث 11 سبتمبر وتنميط اليمن كبؤرة إرهاب ومحاولة فرض رؤية للغرب لليمن من زاوية أمنية فقط وليس تنموية كله فقط من اجل الكرسي وتثبيت حكمة ، فبئس الكرسي الذليل !
وعلى خلفية تصريح الخارجية الإسرائيلية بنصح مواطنيها بعدم الذهاب لليمن وقتها أتذكر تعليق للدكتور الراحل محمد عبدالملك المتوكل بقوله معلقا على ذلك رغم تسهيلات اليمن لليهود وقتها فقال " رضينا بالهم ، والهم مش راضي بنا " وفيه إشارة بأن غض اليمنيين مثل تلك التنازلات المجانية لإسرائيل ومع ذلك دولة الكيان الصهيوني غير راضية بأغراء ومراضاة صالح لهم !
يكفي ان نسرد ما أكده تقرير لجنة الخبراء في الأمم المتحدة تواطؤ صالح وأفراد عائلته والصلات الوثيقة التي تربطه مع تنظيم القاعدة الإرهابي وزعمائه في اليمن. حيث أشار التقرير، إلى أن وزير دفاع المخلوع آنذاك محمد ناصر أحمد، عقد لقاءات عدة جمعت صالح بسامي ديان زعيم تنظيم القاعدة لوقف العمليات العسكرية ضد التنظيم في أبين.
وذكر التقرير أن أوامر عسكرية صدرت في مايو 2011 من يحيى صالح، وهو ابن شقيق صالح والمسئول عن وحدة مكافحة الإرهاب في أبين، بانسحاب القوات العسكرية نحو العاصمة صنعاء، مما سهل لتنظيم القاعدة شن هجوم على المحافظة والسيطرة عليها حتى منتصف عام 2012.
بحسب التقرير، يحاول الزج بكل الأوراق سواء على صعيد العمل العسكري أم السياسي في إرباك وتعقيد المشهد اليمني من خلال مناصريه في حزب المؤتمر الشعبي العام. ففي نوفمبر 2014 اتهمت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن صالح بأنه منخرط في أفعال تقوض السلام أو الأمن أو الاستقرار في اليمن وتعطل أي مبادرة سياسية في اليمن.
وبحسب تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة الصادر في سبتمبر 2014، فإن المخلوع صالح يدعم الأعمال التخريبية وأعمال العنف من خلال تقديم الدعم المالي والسياسي وعبر قنوات مختلفة. كما أشار التقرير إلى أن صالح يستخدم عملاء له في تنظيم القاعدة من أجل تنفيذ عمليات التصفية الجسدية واستهداف المرافق العامة والعسكرية لإضعاف الرئيس عبدربه هادي منصور.
وككل الأنظمة الشمولية الدكتاتورية، حاول صالح خلق مشهد مربك وحالة من السخط والتذمر داخل شرائح المجتمع اليمني وأطيافه السياسية وترسيخ فكرة "اللابديل" عن سلطته لدى أذهان العامة حيث كانت قادرة، بنهج سياسة التواطؤ، على الادعاء بلجم "البعبع" الإرهابي من تنظيم القاعدة وتحجيم سطوة ميليشيا الحوثي في البلاد، خداعا وتكشف وثائق "ويكيليكس"، نشرت في سبتمبر 2009، عن برقيات دبلوماسية تؤكد على التعاون الوثيق بين صنعاء وواشنطن في مكافحة "الإرهاب" وفق الرؤية الأمريكية فهذا المصطلح " الإرهاب" لم يجمع أو يتفق عليه لأنه مجرد شعار تتلحف به القوى العالمية المهيمنة.
في برقية لمسئول أميركي باليمن قال الرئيس السابق : "منحتكم باباً مفتوحاً بشأن الإرهاب. ومن ثم لست مسئولاً عن تداعيات العمليات الأميركية". ووفق "ويكيليكس"، كان صالح يفضّل استخدام القنابل الموجهة بشكل دقيق من الطائرات بدلاً من صواريخ "كروز".
أن تحليق طائرات بدون طيار هي أيضا بدعة سنهاصالح نفسه،وفي مقابلة)لقناة MBC) المعروفة وقتها حول لماذا سمح للطائرات بدون طيار تصول وتجول او تقصف . رد بعبارته المشهورة : "هي طائرات أتت من السماء شو نعمل فيها !
وخلاصة الأمر بأن حقبة الرئيس السابق في علاقاته الإقليمية والدولية هي اختزال رؤية العالم لليمن من زاوية أمنية وليس تنموية بغرض كسب تأييد غربي مع نظامه لضمان الاستمرار غير آبه بتبعات ذلك بحيث خسر اليمن سمعته كوجهة سياحية كان يتدفق إليها السياح قبل أكثر من عقدين من الزمن ، لينتهي الأمر بانسداد السبل بوجه المواطن عندما تنسد المطارات والمنافذ والقنصليات الأجنبية في وجه حامل الجواز اليمني .. فاليمني سوا داخل بلده او خارج بلاده هو من دفع ثمن "أفغنة اليمن". فهذا اخطر من استغلال او المتاجرة بالقضية الفلسطينية سواء من هذا الطرف او ذاك .
* كاتب وسفير في الخارجية اليمنية