إن الحرية التي تمنحها دولة من الدول لمجتمع أو لأفراد والتي يجب أن تشمل كل فئاته، خاصة مهمشيه هي حرية يمكن سحبها بقرار مفاجئ، فالحرية لتنجح تتطلب مؤسسات تمنع الدولة أو فئة من المجتمع من الاعتداء على مواطن أو مواطنين وسحب حقوقهم أو التدخل بحريتهم. والحرية لا قيمة لها إن لم تتثبت وتتجذر عبر دستور وقوانين واضحة وقضاء مستقل وهيئات ومؤسسات مدنية تدعمها وتؤكدها.. وتؤكد التجربة الإنسانية بأن الحقوق التي تمنح من الأعلى لا يمكن أن تصمد إن لم تعززها القيم القانونية والقضائية ومؤسسات المجتمع ذات القدرة على إيقاف عملية التراجع عن الحريات والحقوق بجرة قلم.
إن محاولة قتل السياسة والمساحة العامة هي أحد أهم مسببات المشكلة العربية مع الحرية، لأنها تعني غياب نقاش وطني حول الشؤون الاجتماعية والإدارية والاقتصادية وحول الفساد وأثره وحقوق المرأة وحقوق الإنسان وطريقة الحكم وقرار الحرب وقرار السلم والتفاوض.. إن تفادي النقاش المفتوح سلم الدولة للجنة صغيرة (الدولة العميقة إن صح التعبير) التي تدير البلاد وفق منظورها الأمني الخاص.. الدولة العميقة في العالم العربي تعبير هي حالة احتكار واستحواذ واستخدام للقوة الأمنية والجيوش ضد المجتمع أو فئات منه.
إن جوهر الحرية وأساسها سياسي، وذلك لأن السلطة السياسية تمتلك أدوات عقابية وأمنية وعسكرية ولديها الاحتكار الأكبر لوسائل العنف في المجتمع، وبالتالي إن لم يستطع الفرد المواطن نقد سلطة الدولة والحد من صلاحياتها فحريته معرضة للمصادرة.. لهذا بالتحديد برز في التاريخ الإنساني ذلك السعي للحد من صلاحيات الدولة والحكومة بهدف حماية المجتمع من سوء استخدام السلطة لصلاحياتها.. إن قوة كل دولة وحكومة تتطلب تحديد لمداها.
إن الحرية في حدها الأدنى: هي تلك الحرية التي نمتلكها أولاً في نقد السلطات أكانت هذه السلطات حكومة قوية ومتنفذة أو برلماناً لديه سلطات تنفيذية واسعة أو قرارات سلطة قضائية أخطأت في صنع قرارها.. والحرية هي أيضاً تلك الحرية التي يمتلكها كاتب ومسرحي وسينمائي أو مثقف وفئات أو جماعات في قول رأيها بحرية وبلا موانع دون أن تتدخل السلطات وأجهزتها الأمنية في تحديد واعتقال تلك الحرية.
لكن القوانين العربية في السنوات الأخيرة أصبحت في تضاد يكاد يكون شاملاً مع كل ما يتعلق مع الحريات.. فاللحظة العربية الراهنة عمّقت في صفوف الرأي العام العربي خطاب التشكك والتساؤل. فالخطاب الرسمي يعجز حتى الآن عن تفسير ما آل إليه الوضع العربي ويعجز عن اللحاق بالتحولات الكبرى التي تعصف بالحدث، وأدى هذا العجز إلى طرح قوانين متشددة حول الحريات ما ساهم في تكوين رأي عام يزداد نقدية وتخوفاً من المسار الراهن.. لهذا أقرت العقوبات الحكومية المبالغ بها بحق التعبير والحقوق، وأصبحت العقوبات تشمل كل منتوج نقدي موجه للجيش والقضاء والرئيس والنظام السياسي وقادته.
قول الحقيقة للنظام السياسي هو الأصعب في الدول التي تعاني من مرض مستمد من مدارس الشيوعية والفاشية والنازية والاستبداد التي قدمت لنا في العصر الحديث مدرسة الإعلام الجماهيري الموجه.. إن أحد أسباب الهزائم العربية في حروب عدة ومعارك كثيرة مرتبط بعدم القدرة على قول الحقيقة.. فأزمة الاستبداد مع الحقيقة وروادها وناشريها تعكس بالأساس ضعفه، وذلك بحكم استناده أساساً على قوة القمع في الداخل والضعف مع الخارج.
إن غياب الحرية في الواقع العربي سيسبب في المستقبل ثورات وعنف ونزاعات وأزمات سياسية واستقالة حكومات وسقوط أنظمة.. الهدف الأهم لحرية التعبير هو جعل كل القوى، خاصة المهمشة قادرة على إسماع صوتها، وذلك بهدف دفع النظام السياسي لتلبية رغبات المجتمع وإدارة عملية التحول من سلطة لأخرى ومن إدارة سياسية لأخرى بوسائل سلمية.. إن هذا النقص في الواقع العربي الراهن سيعني المزيد من عدم الاستقرار.