منذ اللحظة الاولى تآمرت السعودية من اجل تقسيم اليمن.
اتذكر اني كتبت مقالة تقريبا عام 2004 حول موقف السعودية من اليمن المرتبط بوصية الملك عبدالعزيز مؤسس الدولة الثالثة؛ وهو يحذر ابناءه من اليمن بأن شرهم يأتي من هناك وخيرهم من هناك.
هو قالها بشكل مختلف، ان قوتهم تكون من ضعف اليمن، او شيء من هذا القبيل، واستشهدت بما كتبه محمد حسنين هيكل في مقالاته اليابانية،و تحدثت حينها ان الظروف تغيرت، وربما كانت وصيته صالحة في ذلك الزمان، بينما في الظروف الحالية يتطلب بناء مصالح مشتركة قوية مرتبطة بأمن متداخل.
بعدها بيومين التقيت بوكيل وزارة الاعلام محمد شاهر واخبرني ان السفير السعودي كان متضايق مما نُشر في صحيفة الاسبوع واشتكى حينها لرئيس الوزراء عبدالقادر باجمال بأن ما نُشر يسيء للعلاقة بين البلدين.
في الواقع، هناك تعارض جيوسياسي بين نشأة المملكة وجغرافية اليمن الحيوية في جنوب شبه الجزيرة العربية، غير ان القيم الجيوسياسية مرهونة ايضاً لرؤى تتعدى بعض التعارضات، بمعنى ان البلدين المتجاورين يمكن أن تتحدد مصالحهم اكثر وفق نظرة تتعدى الارث الثقيل، بما يلح عليها مشاكل العصر، أو أن العالم سيظل مثقلاً باعباء حروبها القديمة واشكاليات حدودها المتداخلة.
لنأخذ اليوم طبيعة العلاقة بين المانيا وفرنسا، وهي طبيعة محتدمة بجذور عنف وحروب، لكنها اليوم تتناغم وفق مصالح اقتصادية.
ربما لم اشر لذلك حينها، لكن هناك طبيعتين مختلفتين، دول عصرية، واخرى عالم ثالثية مأسورة لبنية حكم قروسطية، وربما كنت اتمتع بنظرة حالمة لم ترتب كثيراً لاشكالية اختلال الشكل السياسي الطبيعة انظمة قمعية تجرها اهواء الحاكم مطلق التصرف.
ربما استطردت في مقدمة طالت عن مقاصد حديثي؛ الا ان طبيعة ما يدور في اليمن، يعود لذلك الإرث المثقل، وهي العلاقة التي فرضتها الحرب الحالية في اليمن، وكيف راهنت السعودية على فرض اجندتها بمعزل تام عن حليفها الذي يمثله عبدربه منصور هادي كرئيس شرعي وحكومته، وهي الشرعية التي بنى عليها التحالف تدخله العسكري لمواجهة شبح توسع اقليمي لايران، بما يفرضه من تهديد حقيقي لوجودها كدولة وأسرة. كما ان طبيعة الشحن الطائفي وطبيعة الرخاوة الجيوسياسية للمنطقة الشرق اوسطية يفتح اعذاراً لاعادة تقسيمها، لن تنتهي عند حدود معينة.
فالسعودية منهجت تدخلها في اليمن وفق عبء وصية مؤسسها، بالنظر الى اليمن كفضاء لا انساني يمتد كقربان تضحية من اجل طبيعة الحكم، وهو اشبه بشكل طقوسي يختلط فيه المقدس بالصبيانية والتهريج بالحزم.
هذا الموقف يتضح اكثر في احداث عدن؛ لكنها احداث تلتصق تماماً بما جرى في صنعاء 2014، حين تواطئت السعودية مع اجتياح صنعاء لضرب الوفاق السياسي ومبادرتها، او ما سمي بالمبادرة الخليجية المرتبطة بمخرجات حوار ووفاق سياسي بين شتى الاطراف السياسية.
في لقاء سابق، تحدث ولي العهد محمد بن سلمان انه حذر نجل الرئيس السابق علي صالح، احمد علي قائد الحرس الجمهوري، بأن الجنوب خط احمر، وكان واضحاً ان الترتيب السياسي لليمن مر بشكله المأساوي والهزلي هناك في انقلاب صنعاء، وهو ما يبدو ان ابقاء هادي رهينة في الرياض يشبه وجوده تحت البقاء الجبري في بيته في صنعاء؛ وهو البيت الذي ظل محاصراً بين اسواره وسط صراع مراكز قوى جهوية احكمت قبضتها على الجيش طوال عقود تشكل الدولة اليمنية والتي ورثتها دولة الوحدة بعد حرب 94.
ويبدو أن صالح فتح ابواب نعشه حين تواطئ بزحفه جنوباً، مخالفاً الاجندة السعودية لإعادة رسم الأزمة السياسية اليمنية وفق انقسام سياسي سيتم تخمير شكله، لكن الاطراف جميعها، كانت تنظر لهادي كعائق ازاء مطامعها او اجندتها الخاصة، باعتباره رئيس توافقي يحمل مشروع دولة اتحادية، تخرج اليمن من ازمتها.
لقد راهنت الاطراف على الحوثيين في مضمون يخل بمرحلة سياسية انتقالية، بل ان سفراء الدول الراعية للمبادرة والتوافق السياسي فرضوا عليه الذهاب الى عمران ليقول انها عادت الى احضان الدولة، وسقطت صنعاء بينما السفير الامريكي ظل يلتقي بالاطراف دون قلق أمني تفرضه الأحداث.
لهذا كان الحوثي عذراً ما، عذراً لشيء قاسي ستمرر من خلاله سياط باردة وثقيلة تعيد غربلة اليمن جغرافياً وسياسياً، ولا بأس إن ذهب هادي واعلن من عدن الانفصال، لم يفر هادي من بيته، دون تواطئ من تحالف صالح- الحوثي، او احدهما لأن كل طرف منهما كان لديه اجندة هيمنة متعارضة.
وحبلت الاحادث مراراً بهذا الشكل العاصف من الحرب. وظل هادي المهماز، باعتباره الرئيس الشرعي والتوافقي، لبقاء حالة سياسية يمنية لا تتفق مع كل تلك الرهانات المتعارضة، بما فيها رهانات السعودية، وهو ما يغدو اليوم واضحاً في عدن؛ اصرار التحالف على تقليم مخالب هادي العسكرية في العاصمة المؤقتة عدن.
لا يمكن ان نرى لما يحدث في عدن اليوم، بمعزل عن ما حدث في صنعاء كانقلاب سياسي مكتمل الأركان، وهذا ما تفضحه العوارض، فصالح اصبح ورقة منتهية الصلاحية، الا ان الاحتفاظ باحمد علي في ابو ظبي، شكل طقوسي لإحياء صلاحية انتهت فرضاً وبشكل غير قابل للرهان. لكن الصلف لإعادة هذا الخلط السياسي؛ بما يعيد احياء فكرة شمال وجنوب، والاكثر من هذا، وضعهما او اعادة حقنهما في كيانات هشة ومثقلة بالنزاعات.
لا بد ان تبدو الصورة كما هي اليوم؛ استنتاج الوقائع كما هي، دون المبالغة في التأويلات: تخلى التحالف منذ اليوم الاول عن هادي في عدن وحكومته، على الاقل دعم التحالف طرفاً ظل يشكل حاجزاً علنياً على عودة الحكومة لتمارس مهامها بصورة طبيعية في عاصمة مؤقتة.
بينما بدت حرب استعادة الدولة، واعادة الرئيس الشرعي وحكومته لليمن واكمال مخرجات الحوار، اشبه بمزمور تلقي به وسائل الاعلام يومياً، لا يمت للواقع بصلة.
دُحر الحوثيين من الجنوب بصورة سريعة، ثم توقفت الحرب في تعز، مقاتلو المقاومة لا يحصلون على دعم كافي، حتى ان الحزام الامني المدعوم من التحالف في الجنوب ظل يمنع اي دعم عسكري يأتي الى تعز.
هل اراد التحالف دحر الحوثيون من الجنوب، وخلق سياج في الشمال محترب بغرض فرض أجندة معينة؟ أي تحرير الجنوب، وترك هذا السياج الممتد من تعز مرورا بالبيضاء الى مارب مشتعل، يحتجز الجنوب ويظل متحارباً حتى يتم اعادة او حقن كيان يمثله مخلفات صالح في الشمال، وحقن فصائل انفصالية في الجنوب، بينما يتم ابقاء هادي كرئيس شرعي بلا مخالب مجرد شكل صوري لمباركة هذا التقسيم، من خلال إعلان فيدراليتين شمالية وجنوبية، أو ربما ثلاث فيدراليات.
وهو ما يبدو لي فانتزية سوداء وهزلية، وامراً يسبق اوانه غير قابل للتطبيق في ظل ما يجري اليوم، فالحوثيون مازالوا قادرين على إرسال صواريخهم إلى الرياض. ثم إن الجغرافيا العصية في اليمن هي مناطق سيطرة الحوثي ومنها يستطيع اعادة سيطرته على اليمن حين تواتيه الظروف.
مع هذا، تفرض الجغرافيا اليمنية تعقيداتها على محيطها، وهي قادرة دائماً على فرض شخصيتها، وفي عدن اليوم تم استعادة الصورة لما جرى في صنعاء، ورغم انه رهان لهذا التدخل، الا انها انعكاس لطبيعة اليمن في استعادة الاحداث عبر مدارات متماهية تعيد عجن الزمن في سياقها الخاص، فالانقلاب اليوم على الشرعية في عدن يبدو اكثر هزلية وسوداوية، لإنه استمرار للركض نحو ماراثون لانهائي وإن اصطنع له محركو اللعبة نهاية ما، الا ان اللعب في اليمن مثل نبش عش دبور كامن، يصبح بلا نهايات نتيجة تعقيداته المتشعبة.
هكذا عرت وقائع عدن التحالف العربي الذي تدخل من اجل اجندته، وتعامل مع شرعية هادي كإشكالية في طريق نواياه، وما يعتقده البعض تصرف غبي من التحالف، اجده اليوم صلافة يمكن مرورها في سياقات رخوة، الا ان الرخاوة في طبيعة اليمن اشبه بوحل يدعو للغرق، حيث تغدو الجغرافية اليمنية قادرة على اعادة تشكيل الرهانات السياسية؛ وإن انكمشت فإنما تكمن فقط.
فالوحدة لم تكن نتيجة تغلب قوة على اخرى، او اتفاق سياسي سابق لصراع، بل فرضته جغرافية عميقة التداخل وإن ظلت تنذر بالشقاق المزمن.
وقبل كل ذلك، فغدر التحالف بهادي، وإرادته ببقائه رئيس بلا مخالب او ادوات حكم، انما صورة لوصية ثقيلة ربما تنذر بأن تحبل بالشر، بينما ارادت لنفسها خير مزعوم، وبصرف النظر عن رجال صغار يحيطون بهادي، فالأخير يدرك تلك الجغرافية المتداخلة والمعقدة، لهذا سيكون حليفاً لا أكثر؛ اي أن ذلك ما ينبغي على اليمن ان تكونه، هذا ما يبدو لي على الاقل؛ وإن مر الغزاة فإن اصرار هادي على احقيته كرئيس يجب ان تكون لحكومته مخالب وليس لشخصه، يمنحنا على الاقل هذا التكيف مع امكانية ان نكون؛ وهذا ما لا يريده ملك خرج من عباءة وصية تجاوزها الزمن منذ ما يزيد عن نصف قرن، ولا يدرك مخاطر تأتيه من الشمال الشرقي، وتضع مصير دولته في مسار مشترك مع اليمن، الا ان صلفه يمنعه عن الاعتراف بهذا التساوي المعنوي، هذا التساوي الصغير ويأبى الا ان يكبل اليمن بخرافات التقسيم البدائية المثقلة بفصائل صغيرة، دون ان يعني له بلد فضاء انساني واسع مركب من تنويعات عديدة.
*المقال خاص بـ "الموقع بوست"