من المعروف أن السلطة الفعلية لا تخرج عن إطار ثلاثي (الجيش، المال، الإعلام)، وهذا ما ركزت عليه مخرجات الحوار الوطني، التي عملت على توزيع السلطة والثروة، وبناء جيش على أسس وطنية.
كان الجندي في النظام السابق يعتبر في درجة فراش (الدرجة الرابعة عشر) في السلم الوظيفي، لكن في مخرجات الحوار الوطني تم فصل الخدمة العسكرية عن الخدمة المدنية، وأصبح للعسكري درجته الوظيفية التي تراعي العمل المقدس الذي يقوم به في الجبال والصحاري، وتم كذلك إعفائه من ضريبة الدخل كونه يقدم ضريبة الدم فداء لهذا الوطن، وإعطائه راتبا تقاعديا عن كل سنة خدمة بعد تقاعده، ومنحه البدلات والعلاوات والحوافز (العلاوات الدورية – علاوات الاختصاص - علاوات الصحراء والجزر - علاوات التأهيل - بدل التخرج - بدل المخاطر – المكافآت والمزايا الأخرى).
والأهم من ذلك عملت المخرجات على أن لا يكون الجيش أداة للاستبداد، من خلال الخروج بأسس وطنية لبنائه على أساس الجغرافيا والسكان، فلم يعد الجيش حكرا على مناطق نفوذ بعينها، ففي محافظة ذمار 100 ألف جندي من أبنائها، وإقليم بكامله لا يتعدى جنوده الأربعة آلاف، ولم يعد تعيين قادة العسكريين حكرا على الرئيس، فلابد من موافقة مجلس الاتحاد المكون من ثمانين عضوا بالتساوي بين الأقاليم، لتعيين القادة العسكريين كرئيس الأركان، وتبقى صفة الوزير كمنصب سياسي، ويمنع على أي من القادة العسكريين والوزراء تعيين أيا من أقاربهم، من الدرجة الأولى وحتى الرابعة في وظائف تقع في إطار مسؤوليتهم.
فلماذا كل هذه الحرب على هذه المخرجات؟ لأنها فككت سيطرتهم على السلطة الفعلية وخاصة في الجيش، ليكون جيشا ذو عقيدة وطنية، وجيشا قويا وموحدا ومتساويا بالحقوق، فلم يعد جيش فلان وعلان، فقد وصلنا إلى درجه اختفاء هوية الجيش، ليحمل نجل أحمد صفة (جندي) وعلي (جندي) وطارق (جندي) ويحيى كذلك، لتغيب حتى أسماء المؤسسات، هنا تكمن أهمية المخرجات التي أنهت تغول تلك الأسرة على المؤسسة العسكرية في المستقبل، حتى على مستوى صفقات السلاح لم تعد حكرا على رئيس الدولة وتجار السلاح الفاسدين، وهي أكثر صفقات الفساد غموضا وسرية، فمخرجات الحوار جعلت ذلك من عمل لجنة مناقصات عليا، مهمتها عرض الصفقة كأي سلعة للتنافس العلني والواضح، وكذلك التموين الخاص بالقوات المسلحة والأمن يكون عبر هذه اللجنة العليا المشكلة بموافقة الجمعية الوطنية.
كل هذا وتستغربون لماذا قاتلوا من أجل إفشال هذه المخرجات؟! إنهم يرغبون ببقاء السلطة والنفوذ والمال بأيديهم فقط، وهم كذلك تجار حتى في أوساط الجيش، جعلوا من تلك المؤسسة شركة للربح في كل مفاصلها، وتحولت المؤسسة الاقتصادية إلى شركة خاصة، وأصبح نصف الجيش وهمي، والجندي لا قيمة له، ومن له قيمة فقط لحراسة الكرسي.
لذلك فشل الجيش في أول مهمة له في حماية الوطن، وانحاز لأطماع صالح، وسلم سلاحه ومعسكراته، وخان شرفه العسكري وانقلب على السلطة الشكلية (الشرعية)، ليرتمي بحضن الميلشيات الطائفية، وفشل مرة أخرى أمام تغول هذه الميلشيات لينتهي بمؤسسة فريسة سهلة أمام لدغات الحوثيين.
كان كذلك المال الذي يعد أحد أهم أركان السلطة الفعلية في أي بلد، أما في اليمن فحسب تقارير دولية سيطرت عشر أسر على المال، وأصبحت هي المتحكمة باقتصاد البلد، فالثروة هي من مختلف الأقاليم لكن المركزية جعلتها تتقزم إلى جيب شخص واحد، فليس لمأرب ولا لشبوة ولا لعدن ولا غيرها حق المشاركة في هذه الثروة الكبيرة، وحتى الضرائب والزكاة، فقد بلغ فساد التشريعات وفساد النظام السابق إلى حد أن يسيطروا حتى على حراسة المنشآت، فأسسوا شركات أمنية تتبعهم، ومن قرأ ملحق القضية الجنوبية لشاب رأسه، فقد تم توزيع النفط قطاعات لمشائخ، فلا تستطيع شركة الاستثمار والاستكشاف العمل، إلا بإذن ذلك الشيخ أو ذلك المسؤول بعيدا عن الدولة.
عالجت المخرجات ذلك من خلال تحديد نسب من الثروات للولاية والإقليم والسلطة الاتحادية، بما يضمن التوزيع العادل للثروة، لتظهر هنا المكاشفة، وليعرف كل إقليم ثروته ولتعود بالنفع على أبنائه والوطن أجمع، بعد ذلك اليوم أصبح الإقليم هو الأهم والمعني بتطوير نفسه والبحث والاستكشاف عن ثرواته، والتعاقد بما لا يخالف الدستور الاتحادي، أما أموال الضرائب والزكاة وغيرها فهي موارد ذاتية في الإقليم.
هذه المخرجات سحبت البساط من تحت يد لوبي الفساد الذي كان يسيطر على موارد الدولة، ومنعت تغول الرئيس على المال العام في بناء امبراطورية اقتصادية خاصه به، بعيدا عن الشعب وعن التنمية وعن المحاسبة، وجعلت صلاحية تعيين رئيس البنك المركزي من صلاحية مجلس الاتحاد، وألزمت المؤسسات العسكرية برفع موازنات علنية وختامية، يمكنكم أن تتذكروا أن المؤسسة الاقتصادية لم تكن تقدم حسابها الختامي، وكان إذا فتح أحد أعضاء مجلس النواب هذا الموضوع، تم تهديده بالتصفية، بالإضافة إلى وجود موازنات مفتوحة للرئاسة، فأصبحت ثروات اليمن موزعة في بنوك العالم بأسمائهم وأبنائهم، وجعلوا من الثروة فرصة لثرائهم حتى التعليم أصبح موازي كفرصة كبيرة للدخل والثراء، لكن المخرجات وزعت الثروة توزيعا عادلا، فلا غريب أن يجمع لوبي المال والفساد على محاربتها.
أما إعلاميا فقد كان للدولة قناة رسمية فقط مهمتها صناعة صنم يُعبد، تقتل من خلاله وعي الناس تغيب عن هذه القناة كل الأخبار لتبقى فقط أخبار افتتاح المشاريع الوهمية، وأغاني التطبيل بالإضافة إلى السيطرة على القنوات الخاصة، وافتتاح الكثير منها لذات الغرض وإعاقة افتتاح قنوات خاصه بسبب القوانين التي تمنع ذلك، لم نكن نعرف إلا قناة واحدة في الساحة اليمنية، مهمتها صناعة صنم اسمه صالح وإن وجدت قناة أخرى فسقف الحرية في التعبير منعدم، وكذلك الصحف وإنشاء محاكم خاصة بالصحافة، مهمتها تكميم الأفواه وترحيل الأقلام.
عالجت مخرجات الحوار الوطني تغول السلطة على الإعلام واستخدامها لتزييف وعي الناس، من خلال إلغاء وزارة الإعلام وإنشاء مجلس أعلى للصحافة، والإعلام مستقل من رؤساء المؤسسات الإعلامية العامة والخاصة، مهمتها وضع السياسية الإعلامية للبلد، فلم نسمع في دول ديمقراطية وجود وزارة للإعلام أو قنوات وصحف رسمية، وإن وجدت فهي مستقلة ومهنية، كونها قناة المواطن الذي يعبر فيها عن آرائه، وسهلت المخرجات معايير إنشاء الصحف وافتتاح القنوات بمجرد الإخطار، فلا يحق للسلطات منع ذلك في إطار قيم ومصالح البلد الكبرى. وقد حدثت منذ ثورة فبراير طفرة إعلامية، فقد تم فتح العديد من القنوات والصحف، وأصبح الإعلام سلطة مهمة وفعلية، وقد عملت المخرجات على منع تغول النظام لتصبح أداة للاستبداد.
كانت السلطة الشكلية التي تمثل شكل النظام بسلطاته الثلاث، فقد وزعت المخرجات هذه السلطة من خلال نظام الأقاليم كيمن اتحادي، بعد أن فشلت المركزية في اليمن، وأنتجت دولة فاشلة، يتحكم بالقرار مزاج شخص، سواء على مستوى تعيين مدير مدرسة، كانت المحافظة يتم التحكم بها من قائد اللواء وليس المحافظ، وكانت السلطة الفعلية هي من تحكم وليس الشكلية بالمحافظة أو غيره.
فعلي سبيل المثال، كانت محافظة الضالع التي انتمي إليها يتم التحكم بها من قِبل قائد لواء عسكري استمر عشرين سنة، أما المحافظ فمجرد موظف مع القائد، وقد عملت المخرجات على إيجاد التوازن بينها وبين السلطة الفعلية، فلا تستطيع السلطة الشكلية استخدامها كأداة للاستبداد لأنها لم تعد حكرا عليه، ولا تستطيع سلطه أخرى السيطرة عليها كسلطة القبائل، لأن المخرجات تجرم وجود تشكيلات مسلحة وتحصر السلاح بيد الدولة فقط.
نظام الأقاليم وزع السلطة والثروة من المركز المقدس إلى الأقاليم والولايات والمديريات التي تنتخب حكامها مجالسها، وهي مسؤولة عن ثرواتها وأمنها في إطار أمن البلد بأكمله، ووزعت الثروة لينعم الإقليم واليمن على أساس العدل ورفاهية المجتمع، وقامت بتحييد الإعلام ورفعت سقف الحرية، ومنعت أي حزب أو قبيله أو سلطة شكلية من التحكم والسيطرة على السلطة الفعلية في البلد، لتكون هذه السلطة ملك الجميع ولتُشكل الحكومات والرؤساء إدارة مؤقته تدير مصالح شعب لفترة مع ضمان محاسبتهم عن أي تقصير.
تلك السلطة الفعلية هي من انقلبت على الشرعية وعلى فخامة الرئيس عبدربه منصور هادي، الذي سلمت له فقط السلطة الشكلية ليحتفظ صالح بالجيش والمال والإعلام، لإدارة انقلابه وتسليم البلاد للميليشيات.
لذا فإن مخرجات الحوار الوطني التي تحل اليوم الذكرى الرابعة لها، هي الحدث الأهم في تاريخ اليمن الحديث، والتي أنتجت اليمن الاتحادي بقيادة المشير عبدربه منصور هادي، الذي استبسل للدفاع عن هذا المشروع، وصارع كل المشاريع التي تقف عائقا أمام تحقيقه.
*الكاتب عضو مؤتمر الحوار الوطني.