تقت لعيش وانا في مراهقتي نفس تفاصيل اغنية فاتت جنبنا لحليم، وهو ما لم يحدث ابداً فإما ان تضحك فتاة دون ان يكون اخر بجانبي او لا تضحك ابداً. غنى عبدالحليم لنا حين كان الحب طموحنا الأول في الحياة؛ انه مغني مرحلة الشباب الاول دون منازع. غنى معبراً، بدرجة اولى، وقبل كل شيء كان مجيداً لا يخل.
اختار محمد عبدالوهاب ملحن الأغنية مقام العجم لتلحين الأغنية، هل هو الثوب الذي اعطى الأغنية ذلك اللون البهيج. وهو المقام الرئيسي في المقدمة الموسيقية عدا تحولين بسيطين؛ تبدأ الاوركسترا دون ايقاع، لكنه يتحول على الاورج الى مقام الصبا، وبتحديد اكثر جنس الحجاز المتفرع من مقام الصبا دون وجود ربع التون الذي يمتاز به مقام الصبا الشرقي. وهذا التحول يعطي شحناً دراماتيكياً على موضوع قصة الأغنية.
في البداية كانت الاغنية تنتهي بشكل مأساوي وصادم للبطل، عندما تخبره الفتاة بأنها تضحك لصديقه في اخر الأغنية. لكن عبدالوهاب يطلب من الكاتب ان يجعل نهايتها سعيدة؛ لم يكن يريد اغضاب الجمهور الذي ظل يتلهف. أي انه من المحتمل كانت ستكون بشكل اخر تماماً، على الاقل ليس بذلك الثوب المرح.
على ايقاعات الفالس يوظف الجيتارات مع ترديد للأوركسترا وبالطبع من مقام العجم، دو ماجور. تعطي الموسيقى شكلاً فرائحياً عبر بناءها النغمي البسيط. لكنه يتغير في طابع ذو منحى متوتر بعض الشيء، اذا منحنا الموسيقى شكلاً وجدانياً، او ربما ذلك ما اراده الملحن، لان الموسيقى نفسرها بطرقنا المختلفة، ثم انها لا تُفسر بعيداً عن مضامينها الموسيقية أي تفاصيلها النغمية والمقامية.
اغنية تسرد قصة، سرد بسيط ومقتضب شملت بعض الجوانب النفسية لهذا الرجل. الأغنية منذ اللحظة الأولى ارادت تجسيد القصة دراماتيكياً، ولهذا سنلاحظ الاختيارات المقامية التي يغلب عليها العجم. ففي غناء المقطع الأول والمذهب لا يحدث أي تغييرات سوى داخل العجم نفسه، وهي الطبيعة اللحنية التي ستنتقل بعد التعبير عن المفاجأة بلقاء الفتاة التي تضحك لهما، وكيف رد وغاب معها. في المذهب "اعرف منين انها قصداني انا مش هو.. يتبدد المرح والتطلع الحالم بشحنة حيرة، يعيده في المقطع ا لأخير بطابعه الرئيسي ومن الجواب، كأمل "ليه انا، ليه مش هو."
شكلت اغاني عبدالحليم عواطف اجيال من الشباب، وبالنسبة لي لم يشكل مغني مشاعري بالطريقة التي شكلها عبدالحليم خصوصاً في مراهقتي وجزء كبير من عشرينياتي. في الكوبليه الأول تستمر هيمنة مقام العجم، عبر الموسيقى الايقاعية، مع تحول صغير الى الحجاز؛ تبدأ الدهشة بلقاء اخر "مرة ثانية كنت انا وهو في طريقنا." مع شبح ظل اخر يظهر لهما. يستمر الثوب البهيج الذي يكرسه مقام العجم، لكنه يتحول الى الحجاز "التفت لقيتها هي." الغاية من التغير المقامي الايحاء التعبيري، مع انه طابع قائم في نمط الأغنية العربية التقليدية. ايحاء بالدهشة: حاجة مش معقولة هي" مع تحول الى الصبا في نهاية المقطع ومن الجنس الفرعي له أي الحجاز، فالدهشة تغلفها الحسرة.
هل نحن بحاجة لاعطاء كل مقام تعبير خاص بعينه، لكل مقام شخصية تختلف عن غيرها، يتحول الغناء الى البيات "وابتديت اسمع في قلبي لحن حب." اذن شخصية وجدانية تجسدها الكلمات، الانتقال من الخارج هي، الى ذات المحب. لكن ماذا تعني تلك الوجدانيات بالنسبة لموضوع الموسيقى، لأن اللحن يظل لحناً يعطي ابهاماً يصبح انطباعاً محاكي للكلام؛ لكنه ينجح في التعبير، وحليم مغني الاحساس العظيم في ثقافة عربية حسية. توقف قصير يعود لنفس الغناء من لكن من درجة اعلى وبتحليات على اللحن نفسه.
بعد البيات يعود للعجم ويستمر الى نهاية المذهب في الاغنية. يعود الى منزله، روحت انا روحت. ماذا يعني اختيار مقام النهاوند؟ هذا يعود لاختيار الملحن نفسه، يستمر الايحاء الفرائحي بطابع لحني ومقامي مختلف، ومستخدماً ايقاع خطوات الحصان في الجملتين الموسيقيتين اللتين لا تخرجان عن النهاوند، والايقاع ايحاء تعبيري كونه يسير ببهجة "روحت انا روحت" مع شعور مختلف، وجوابات للحيرة فرحان عايز اضحك" يغنيها قرار "مهموم عايز ابكي".
لازمة موسيقية قصيرة من النهاوند، ثم عودة لنفس المقطع الذي يغنيه من القرار، تعود نفس اللازمة ينتقل الى الجواب "حبيتها ايوة انا حبيتها" يعترف وبنفس المقام، ثم يعيده بلحن مختلف ومقام شرقي مختلف الراست. يسميه العرب مقام الخشوع، نظراً لنمط استخداماته السائد، وهو ايضاً ربما يوحي بتوكيد ما اعلنه: حبيتها.
المقطع يبدأ نهاوند وينتهي راست، لهذا يستخدم لازمة موسيقية من الحجاز التي تستخدم ككوبري او سكة مقامية بالمصطلحات الشائعة، ليعود الى النهاوند.
ينتقل الى مقام الكرد "وبعد يومين ابتدأ قلبين.." في المفهوم الشائع انه مقام عاطفي. لكن ماذا يعني ان يكون هذا المقام او آخر؟ ثم تحوله الى الحجاز في مقطع "والليالي ذوبتني وشيلت فكري وظنوني....." بطابع شكوى عن ما وصل اليه.
ولعبة المقامات ليست قاعدة ثابتة؛ يعطي الراست هنا مضمون مختلف تماماً عن استخدامه السابق. "ان لقيت صاحبي بيضحك اقول دي لازم قابلته...." يتصاعد التوتر المقابل للشكوى والظنون.
ما اريد قوله ان التقابلات الوجدانية مع استخدام المقام تظل نسبية.
ولأنها قصة فاللعبة المقامية اصبحت دالات لُعبية لخلق انطباع بالتحول الدرامي، ومع التحول من القرار الى الفعل يعطي الايقاع طابعاً حركياً، عبر جملة من مقام الكرد "وعرفت طريقها عرفته عرفته.."
سنلاحظ ان التحولات المقامية في الكوبليه الأخير (الأكثر طولاً) اكثر تنوعاً وتعدداً منها في السابق، وبصورة تتناسب طردياً مع تحولاته الدرامية الأوفر.
يستمر في الكرد "وبعت كلمتين مش اكتر من سطرين.." يلونها بطابع راقص ومرح وكأنها تستبق اللهفة على الجواب. يعود الى العجم الذي بدأ منه، وبطريقة كما لو تجيب على اول الغناء "فاتت جنبنا انا وهو" مثلما تجيب على الجملة التي سبقتها: وجاني الرد... تكون النهاية السعيدة والجواب المرح لكل تلك الحيرة الذي شاب الثوب البهيج للأغنية: وقلتلي انا من الاول باضحكلك يا اسمراني.
تعتبر فاتت جنبنا التي غناها حليم عام 1974 واحدة من اكثر اغاني الحب العربية تأثيراً بالنسبة لأجيال من الشباب؛ وبالنسبة لي حليم اكثر فنان شكل مشاعري اول شبابي. انها واحدة من اجمل الألحان العربية وإن لم تتسم بطابع تطريبي، بل تعبيري بما فيه من اخفاق يجسد وظيفة الموسيقى باعتبارها تجريد. وهي ربما اجمل لحن يقدمه عبدالوهاب لفنان آخر ولا يغنيه بنفسه، رغم بساطة جملها اللحنية.
*نقلا عن صفحة الكاتب بالفيسبوك.