الانسان ابن بيئته، ذلك ما خلص إليه عالم الاجتماع المعروف ابن خلدون، وهي حقيقة يؤكدها الزمن في حياة الناس جيلا بعد جيل، تلك البيئة تنعكس على الفرد منا في شكله وطباعه وسلوكه، فإبن الساحل غير إبن الجبال، والمولود في جنوب أفريقيا ليس كالمولود في فيرجينيا مثلا، ومثله المولود في الصين يختلف عن المولود في باريس، على سبيل المثال.
ولذلك تتفاعل العديد من المؤثرات في صياغة وتشكيل ورسم شخصية الفرد، ومن أبرز تلك المؤثرات الأسرة والمجتمع والمدرسة والجامعة والعرف الاجتماعي وحتى مؤسسات الدولة، وهي المحددات التي تمثل في مجموعها البيئة التي نتحدث عنها.
تذكرت هذا الكلام وأنا اعود بذاكرتي الى بعض المواقف التي حدثت معي عندما كنت صغيرا، والذاكرة هي الخازن الطبيعي لكل شخص منا، ومن لم يتذكر مواقف الطفولة ويربطها بين الاحداث التي يعيشها في مراحل مختلفة من عمره فقد أصيب فليحزن على نفسه، إذ لا قيمة لحدث مهما كانت تفاصيله أن يمر دون استفادة.
ذات مرة ربحت أكبر بالونة في علبة البالونات التي كانت تعتمد على ما يسمى شعبيا بـ(البخت)، ولكني اشتريتها بثمن أعلى، فقد كانت كل علبة تحتوي على مقاسات متنوعة من تلك البالونات، بعد نفخي لها لعبت فيها مع اصدقاء، لكنهم كانوا ماكرين، فبدلا من اللعب فيها بالهواء، طاردوها حتى وقعت على شجرة ذات شوك، فانفجرت، ولم يمر عليها أكثر من ربع ساعة.
كان ذلك كفيل بتفجير الغضب في نفسي الصغيرة، وعلى الفور ذهبت الى شيخ القرية (محمد احمد عبدالواحد) ولازال حيا، وشكوت له ذلك، فكتب خطابا الى جدي من جهة والدي، وهو (عدل القرية) وهي مهمة لازال يعمل فيها وتساوي عاقل الحارة في المدينة، وطالبه بالنظر في الموضوع.
اوصلت الخطاب الى جدي، وفي اليوم التالي تشاجر جدي مع والد اولئك الاطفال، ثم دفع لي قيمة تلك البالونة من جديد، لكن تاجر تلك البالونات لم يأت بعلبة جديدة.
تكرر الموقف مرة أخرى، فقد كان لدي كرة قدم (طبة) في البيت، وفجأة اختفت، وكأن السماء جذبتها، أو الارض ابتلعتها، فتشت في كل بيوت الزملاء ولم أجدها، وظل الموضوع في نفسي محل استغراب عن مصير تلك الكرة التي ضاعت بتلك النهاية المؤسفة المؤلمة.
بعد كم يوم أخبرني أحد الزملاء أن زملاء آخرين أخذوها من باب بيتنا، وكانت بيتنا تقع على احدى الطرق المؤدية للمدرسة الابتدائية، ذهبت الى منزل اولئك الناس، ورأيت الكرة بين اقدامهم، أخبرتهم أن الكرة ملكي، وهم يعرفون ذلك، وبدلا من التجاوب معي، بدأوا في إثارة المشاكل لدفعي نحو الهروب، ولم أغادر ساحة بيتهم الا على وقع الحجارة خلفي.
ذهبت مرة أخرى الى الشيخ، وأخبرته بما حدث، وبدوره خاطب جدي مرة أخرى بالتواصل مع والد اولئك الاصدقاء، وكان أول عمل يقوم به جدي في اليوم التالي ذهابه الى منزل والد اولئك الاصدقاء، وعرض عليه رسالة الشيخ، وطالبه بارجاع الكرة، وتأديب أولاده، (كنت الحفيد الأكبر لجدي، وكان يستجيب لي دائما) ولم يعد جدي الا بالكرة، وكم كانت شماتتي باولئك الاصدقاء واشاعة الحادثة عنهم في المدرسة.
أن تتصرف على هذا النحول كطفل فلذلك اسبابه وتأثير في البيئة على سلوكك، كان منزل جدي لا يتوقف عن زيارات الناس الذين يطرحون قضاياهم، ومشاكلهم اليومية، وكان جدي يفصل في الكثير منها، وما يستعصى او يكون أكبر يحيله الى الشيخ، الذي يفصل في كثير من القضايا أو يحيلها للمديرية، وكنت أراقب ذلك واتابع جدي وارافقه في كثير من أعماله اليومية في هذا الجانب سواء في منزله، او منزل ذلك الشيخ.
لازلت اتذكر احدى النساء التي جاءت تشكو زوجها بأنه لا يعطيها ما تريد، رغم أنه يطالبه بأن تنام معه وهي لم تغلق الاربعين يوما بعد الولادة، ولم أفهم ذلك الكلام الا لما كبرت.
المجتمع الذي أنتمي إليه بدء من القرية (الزاملية) والمديرية (مذيخرة) بأكملها بيئة بسيطة، ونسبة العنف فيها تكاد تصل الى الصفر، ولم تسجل فيها حالة قتل واحدة الا لاحقا وعلى مستوى المديرية، وليس على مستوى القرية، وهي حالات بسيطة، ونادرة، والنادر لا حكم له
في تقارير النيابة العامة التي يصدرها مكتب النائب العام حتى العام 2011م عن القضايا التي تستقبلها المحاكم والنيابات كل عام تسجل محافظات إب وتعز أعلى نسبة في نسبة الشكاوى المقدمة للمواطنين الى الجهات القضائية كأقسام الشرطة والنيابات والمحاكم، بينما محافظات كصعدة ومارب والجوف وعمران هي الأقل في نسبة القضايا التي تستقبلها أجهزة القضاء.
ذلك مؤشر واضح يشير الى تفاعل الناس مع مؤسسات الدولة وتمسكهم بها ولجوئهم إليها، وتلعب العديد من العوامل في هذا المعيار، لعل أبرزها ثقافة البيئة في محافظات كتعز وإب تجاه مؤسسات الدولة، والتي تختلف عن نفس الثقافة في المحافظات الاخرى، التي في الغالب ما تلجأ لشيخ القبيلة، او تأخذ حقها بنفسها، او تستند الى اعراف قبلية واجتماعية ظلت محافظة عليها ومتمسكة بها وتتوارثها جيل بعد جيل.
هذا السلوك الذي تولده البيئة يؤثر في شخصية الافراد داخلها، وينمو معهم، ويحتاج لمؤسسات فاعلة في تغييره إن كان سلبي نحو الايجابية، أو تنميته إن كان إيجابي ليصبح أكثر فاعلية.
في صنعاء على سبيل المثال ستجد أن كثير من ملاك المنازل يفضلون مؤجرين من تعز أو إب أو عدن أو ريمة مثلا على مؤجر ينتمي لصنعاء او عمران او صعدة او غيرها من المحافظات المحيطة بصنعاء، ما الفارق هنا؟ ابناء المحافظات الاولى ليست لديهم النزعة نحو الاختلاف والمشاكل والتعنت كغيرهم، ويسهل الوصول معهم لحل، عبر أي جهة مختصة ابتداء من عاقل الحارة وصولا الى قسم الشرطة وبقية المؤسسات، وهذا ليس تعميما، بل قناعات شخصية ووجهات نظر قد تختلف مع وجهة نظر اشخاص آخرين.
اتذكر موقف آخر، في صف ثالث ثانوي، فقد جرت العادة والتقليد السنوي، أن يكون طلاب الصف الثالث الثانوي في الفصل المميزة داخل المدرسة حتى يحصلون على قدر أفضل من الدروس والاهتمام التعليمي كونهم في آخر سنة دراسية، كي يؤهلهم هذا للحصول على معدل دراسي جيد.
في تلك السنة الاخيرة كنت مع زملائي في الصف الثالث الثانوي القسم الادبي، ودرسنا السنة السابقة (ثاني ثانوي) في فصل دراسي بجوار المدرسة، بسبب قلة عددنا، حيث لم نكن نصل الى الثلاثين طالب، وكان ذلك الصف عبارة عن (صندقة) استعارتها المدرسة من احد المزارعين المجاورين للمدرسة، وحملناها نحن الطلاب على أكتافنا، ونظفنا مكانها، ودرسنا عاما كاملا، ونصف عيوننا نحو المدرس والنصف الآخر في الشارع، تراقب الطالعين والنازلين.
أصر وكيل المدرسة حينها الاستاذ محمد حميد مرعي أن نظل في نفس (الصندقة) وحجته هي عددنا القليل، وفشلت كل محاولات اقناعه بتخصيص فصل دراسي لنا كزملائنا في القسم العلمي داخل المدرسة، وكانت حينها المدرسة مكونة من ستة فصول بنيت بشكل حديث على نفقة الكويت، ومع ارتفاع نسبة الطلاب، تم بناء العديد من الصنادق جوار المدرسة لسد العجز، أما الان فقد تم بناء مدرستين اضافيتين بجانب تلك المدرسة، وجرى توسعة المدرسة نفسها.
ولأني كنت رئيس الفصل فقد أعددت رسالة بمطالبنا كطلاب ورفعتها لمدير المديرية، (يقع مقر إدارة المديرية بالقرب من المدرسة) وطلبت من الطلاب التوقيع عليها وذهبت إليه مع مجموعة من الطلاب.
كان مدير المديرية في الثلاثين من العمر، وحين وصلنا كنا أول المتقدمين بالشكوى في ترتيب الشكاوى اليومية، وكان يرتدي ثوبا وجنبية مع كوت رمادي، ولا أتذكر اسمه أو منطقته، وكان يستقبل الشكاوى خارج مكتبه، ويجلس على دكة بسيطة تطل على الشارع الرئيسي للمديرية حينها، في مبنى يعود للدولة العثمانية التي بنته في السابق، وكان الموظفين يجلسون في جهة من المبنى، والجهة الثانية كانت مكشوفة بعد تهدمها بفعل قدم المبنى.
ناولته الورقة، فقرأها، ثم أخرج قلمه ووجه وكيل المدرسة بتخصيص صف داخل المدرسة للطلاب مثل زملائهم في القسم العلمي، وناول الورقة لجندي كان يقف بجواره لختمها.
قبل أن نغادر المكان مر وكيل المدرسة من الشارع أمامنا، وبحس طفولي ماكر ومشاغب، لفتنا انتباه مدير المديرية الى الوكيل، فاستدعاه ووجهه بما جاء في الامر، وسلمه الرسالة، وأوصاه بشدة في الاهتمام بنا، وخرجنا مسرورين بتحقيق هذا الانتصار، بينما كانت أعين الاستاذ محمد (حفظه الله) ترمقنا بغضب.
في اليوم التالي بدأت أول أيامنا الدراسية في الفصل الجديد، والذي طالما حنيت إليه، وإلى أيامه، والى ذكريات الدراسة في العام الأخير بمدرسة الفتح، سواء للزملاء أو المدرسين.
حينما تخرجنا من المدرسة ذهبنا كطلاب الى مجتمعات جديدة في المدينة، كصنعاء وإب وعدن وتعز والحديدة وغيرها، وهناك تذوب كثير من القيم التي تعود عليها الشخص، وصبغت تلك المجتمعات حياتنا بصبغة البيئة التي انتقلنا لها، غير أن القيم الريفية تبقى ملازمة لإبن الريف حتى ولو سكن في أكثر المدن ضجيجا.
هذه الفروق البيئة كان من المتوقع أن تذوب بفعل مؤسسات الدولة المختلفة من التعليم والقوانين والعدالة، لكن للاسف تلك المؤسسات عانت هي الأخرى من الضعف والتفكك، وباتت تقدم وظائف روتينية يومية، ولم تنجح في صهر الهويات والثقافات المختلفة واذابتها، بل ربما تحولت الى مؤسسات لتجليد تلك الثقافة وتكريسها، ولكنها على كل حال كانت قائمة.