لم يسبق لصنعاء أن عاشت أياماً بهذا القدر من السواد واليأس والبؤس والخوف.. هذه الملامح باتت أكثر كثافة بين معظم سكان صنعاء، وفي المقدمة منهم قيادات وأعضاء وأنصار المؤتمر الشعبي العام، الذين سقط زعيمهم وحيداً في معركة هيأ لها كل الأسباب التي تجعل منه ضحية سهلة وتجعل من نهايته حدثاً عاديا.
قتل علي عبد الله صالح في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر، في مواجهة عسكرية غير متكافئة لم تستمر أكثر من ستة أيام؛ مع الحوثيين الذين استخدموا الأسلحة والذخائر التي أورثها لهم صالح، حينما اعتقد أن سلوكاً كهذا يمكن أن يشكل عقاباً مناسباً لثوار 11 فبراير 2011، الذين وفروا له مخرجاً مشرفاً لم يكن يستحقه.
غضب قطاع واسع من الناس ليس لأن صالح لقي حتفه بهذه الطريقة، بل لأن نهايته كانت على أيدي من هم أسوأ منه، وأكثر قبحاً وخطراً على اليمنيين ومستقبلهم، في الوقت الذي انسحب من كل من كان صالح يأنس بقوتهم ويتحصن بها، ويواصل مغامرة إغراق الدولة اليمنية في جحيم الحرب والدم استناداً إليها.
كان يمكن لأنصاره الذين خرجوا في الـ24 من آب/ أغسطس، بمئات الآلاف في ميدان السبعين، أن يشكلوا سياجاً بشرياً حول منزله، ويصعِّبونَ على الحوثيين إتمام حفلة القتل التي نظموها بهدف إحكام السيطرة على صنعاء، ويطيل أمد المواجهة، لكن ذلك لم يحدث، حتى رأينا بضعة نساء يخرجن في مظاهرة يتيمة أمام جامع الصالح؛ لا يطالبن سوى بـ"جثة الزعيم".
كرّس صالح نفسه، منذ التدخل العسكري الواسع للتحالف العربي، مناوئاً لهذا التدخل، في الوقت الذي كان نفوذه يتآكل، وقواته تتسرب من بين يديه وتتحرر من سطوته، وتنتقل إلى الحوثيين، خصومه القدامى. وكان يستميت في إظهار أنه صاحب القرار في إنهاء هذه الحرب، وبأنه محركها الحقيقي.
لم يكن أي شيء من هذا صحيحاً، وكان التحالف - على ما يبدو - يدرك ذلك من مصادر عديدة.. إلى أن قرر في نهاية المطاف توظيف ورقة صالح، لكن ذلك حدث في وقت متأخر جداً، والأسوأ أنه جاء بعد أن أطل صالح، قبل مقتله بخمسة أيام فقط، عبر التلفزيون، مستغلاً الاحتفال بذكرى الاستقلال الوطني الذي يصادف الـ30 من تشرين الثاني/ نوفمبر، ليطالب ملايين الفقراء بعدم الاحتجاج على الحوثيين، نتيجة عدم صرفهم المرتبات منذ أكثر من سنة، ويوجه رسائل إلى التحالف ويتوعد بكشف وثائق حول تواطؤ السعودية بشأن فلسطين.
بعد يومين فقط قرر الحوثيون إقامة الاحتفال بعيد المولد النبوي في ميدان السبعين، وقرروا معه السيطرة الأمنية على جامع الصالح، أكبر مساجد اليمن على الإطلاق، والذي يقع الجانب الغربي للميدان، بذريعة حماية الاحتفالية.
لم يستغرق الحوثيون وقتاً طويلاً في تحقيق هذا الهدف، فقد دخلوا الجامع عنوة، وأهانوا حراس الجامع الذي يمثل بالنسبة لصالح صرحاً يرمز إلى نفوذه ودولته؛ التي يحاول استعادتها بكل الطرق.. ويكفي أنه حين قرر أن يصادر الهدايا التذكارية المرتبطة بعهده في دار الرئاسة، وضعها في قاعة خاصة في هذا الجامع.
لذا، شعر صالح بمرارة شديدة، كما يفيد المقربون منه، وفهم الرسالة، فلجأ إلى تنفيذ السيناريو المؤجل، وهو الالتحام بمعركة التحالف العربي في اليمن والتخلي عن وصفه بـ"العدوان"، وهو السيناريو الذي كان يعتقد أنه سيعيد ترتيب أولويات التحالف من الشراكة مع الرئيس المنفي في الرياض، إلى الشراكة معه ومع حزبه؛ والشعب الذي توهم أنه سينخرط في الانتفاضة ضد الحوثين في صنعاء.
التحم إعلام الإمارات والسعودية بشكل قوي مع التحركات العسكرية اليائسة لصالح في صنعاء، وصورها على أنها ثورة وانتفاضة مباركة، وأجبر التحالفُ الحكومة الشرعية والأحزاب الموالية لها؛ على إعلان مباركتها "انتفاضة" المؤتمر الشعبي العام بزعامة صالح.
لكن كان الوقت متأخراً جداً، وكان الحوثيون أسرع من غيرهم في التحرك والحسم؛ الذي رأوا أنه لن يتحقق إلا بمقتل صالح.. وقد كان.
بعد كل هذه الدروس السيئة للتحالف في اليمن، لم يكف عن الاستمرار في خوض المواجهة، لكن بعيداً عن الشركاء الجاهزين والمخلصين.
فها هي أبو ظبي تجهض مخطط الرئيس لقيادة المؤتمر الشعبي العام؛ الذي ينص نظامه الأساسي على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الحزب.. وتعمل على استقطاب قياداته التي تتوزع بين الرياض والقاهرة وصنعاء، وتستدعي عدداً من هذه القيادات إلى أبو ظبي، تحت مظلة تقديم العزاء لنجل المخلوع صالح، العميد أحمد علي عبد الله صالح.
هذا الأمر دفع برئيس الحكومة، أحمد عبيد بن دغر، إلى إطلاق تحذيرات من انقسام المؤتمر؛ الذي قد يقود إلى المجهول، إذا استمرت بعض القيادات في أخذ المؤتمر بعيداً عن قيادته الشرعية؛ ممثلة بالرئيس هادي ورئيس الحكومة.
مسعى أبو ظبي على هذا الصعيد؛ تزامن مع إطلاقها معركة عسكرية مفاجئة في الساحل الغربي إلى الشمال من المخا، ترافقت مع حملة دعائية تصف الإنجازات العسكرية لهذه الحملة على أنها نتاج دور متآزر للمقاومة الجنوبية والمقاومة التهامية، ووحدات عسكرية من مقاتلي الحرس الجمهوري الموالين لصالح ودون أي إشارة للجيش الوطني.
ليس هذا فحسب، بل إن صحفا ومواقع إماراتية تحدثت صراحة عن أن نجل المخلوع صالح سيقود معركة الساحل الغربي، على الرغم من أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 يقيد حركته ضمن حزمة من العقوبات التي فرضها عليه؛ نتيجة دوره المعطل لعملية التسوية السياسية في اليمن.
الترتيبات الإماراتية بشأن إعادة إحياء المؤتمر الشعبي، باعتباره تركة عائلية تخص المخلوع صالح وأسرته، أثارت حفيظة مسؤولين بارزين في الحكومة، بينهم نائب رئيس الوزراء ووزير الخدمة المدنية والتأمينات، عبد العزيز جباري، الذين اتهم التحالف بإعاقة التقدم العسكري للجيش في الجبهات، واتخاذ مواقف سلبية تجاه معركة تحرير تعز، وهي اتهامات غير مسبوقة؛ تعززت بمواقف متذمرة من مسؤولين آخرين، بينهم محافظون تابعون للشرعية.
يتصرف التحالف كحليف سيئ وغادر، وصاحب أجندة غير واضحة، وهو أمر أثقل كاهل السلطة الشرعية وزادها ضعفاً، في الوقت الذي تزداد فيه قوة الانقلابيين ونفوذهم، وتزداد معها تعقيدات الخلاص من التركة الثقيلة للأزمة اليمنية على الشعب اليمني والتحالف، والمنطقة بشكل عام.