ما يزال التحالف العربي مصراً على تصدير رسائله الاستفزازية إلى الشرعية، في امتهان قل نظيره في تاريخ التحالفات بين أطراف متكافئة سيادياً، إلى حد يدفع إلى الاعتقاد بأن المواجهة لم تعد اليوم مع الانقلابيين، بل مع الشرعية ومعسكرها العريض الذي يُستهدف بشكل ممنهج من جانب التحالف العربي بهذا القدر من السلوك العدواني المكشوف على الأرض.
فبينما تحتفظ الرياض بالرئيس عبد ربه منصور هادي، وتحشر مساعديه واحداً تلو الآخر في خانة الخيارات الضيقة، والتي يصل بعضها إلى حد إلصاق التهم برجال هذه الشرعية بتمويل الإرهاب، تقوم أبو ظبي بدورها في إعادة تشكيل الواجهة الجيوسياسية لليمن؛ عبر تكريس الانفصال وقضم المناطق الاستراتيجية، كباب المندب والساحل الغربي، وفرض الهيمنة العسكرية المباشرة عليها، والشروع في ترتيبات تقرير مستقبله بعيداً عن السلطة الشرعية.
منذ الخميس الماضي، تصاعدت حدة استهداف ما تبقى من نفوذ الشرعية في العاصمة السياسية المؤقتة، عدن. لم يتوقف الأمر على منع وكيل المحافظة المكلف بالقيام بأعمال المحافظ من دخول مبنى المحافظة ومزاولة مهامه الروتينية، بل إن الأمر تطور إلى تحرك عسكري بالغ الخطورة، في ظل غياب الرئيس ورئيس الحكومة ومحافظ عدن ومعظم قيادات السلطة الشرعية عن العاصمة المؤقتة.
فقد دفعت ابوظبي، مساء الخميس الماضي، بقوات من الحزام الأمني التابع لها للسيطرة على ميناء الزيت، وهو الميناء الوحيد الذي كان لا يزال تحت سيطرة السلطة الشرعية، ويتيح لها تمرير الإمدادات للوحدات العسكرية التابعة لها، ويكرس نفوذها في أهم مدن البلاد بعد صنعاء.
ميناء الزيت الذي أنشأته شركة بريتش بتروليوم البريطانية في خمسينيات القرن المنصرم، مخصص في الأصل لاستقبال ناقلات النفط التي تقوم بتفريغ حمولتها من أجل تكريرها في مصفاة عدن التي تقع في مدينة البريقة، إلى الشمال قليلا من هذا الميناء.
وعبر هذا الميناء الذي احتفظت به المقاومة الوطنية إبان المواجهات العسكرية مع الانقلابيين عام 2015، كانت تصل الإمدادات للمقاومة ومنه دخلت قوات التحالف. لذا تدرك الإمارات بأن خنق السلطة الشرعية مرهون بالسيطرة على هذا الميناء، بعد أن وضعت يدها على المطار والميناء الرئيس، وأطلقت أيدي القوات التابعة لها من المليشيات الجهوية للعبث بالمدينة، وافتعال المواجهات مع الوحدات العسكرية التابعة للشرعية.
هذه المرة تمضي أبو ظبي، باسم تحالف دعم الشرعية المزعوم، في مسار مزدوج. ففي حين تقوم التشكيلات المسلحة التابعة لها بإحكام السيطرة على المرافق السيادية وتجريدها من يد السلطة الشرعية، يشرع المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تدعمه أبو ظبي، منذ الجمعة الماضية، بتحريك المواطنين، للقيام بتظاهرات ظهرت هزيلة، ليبدو الأمر وكأنه غطاء شعبي للتحرك العسكري الذي يأخذ شكل الانقلاب العسكري كامل الأركان على الشرعية اليمنية.
إنه استنساخ سيئ ومفضوح وغير محترف لمخطط إسقاط صنعاء الذي استهدف شرعية الرئيس هادي نفسه في صنعاء، في أيلول/ سبتمبر 2014 والذي كان ثمرة من ثمار المؤامرة التي أدارتها غرفة عمليات الثورات المضادة من مقرها في أبو ظبي.
من الصعوبة بمكان استثمار الغضب الشعبي من تردي الخدمات في المحافظات الجنوبية، بسبب الإرث الثقيل من الفشل الذي سجله المسؤولون الذين عملوا لحساب أبو ظبي بشكل واضح في عدن وفي غيرها من المحافظات الجنوبية، خلال السنتين الماضيتين، وساهموا في منع السلطة الشرعية في القيام بواجباتها، وتحولوا إلى حراس سيئي الخلق على مشروع الخراب الذي كرسه التحالف عبر أبو ظبي في جنوب اليمن.
وفيما يستمر مخطط تقويض الشرعية في الجنوب، يقوم التحالف بتحريك جبهة نهم المهمة الواقعة إلى الشرق من العاصمة صنعاء، في ترجمة مباشرة لتصريحات ولي العهد السعودي؛ الذي يحتاج على ما يبدو إلى تعزيز موقفه السياسي في الداخل، وربما أيضا بدافع ترويض المواقف السياسية للانقلابيين عبر حشرهم في زاوية ضيقة، من خلال دعم التقدم السريع للجيش الوطني في هذه الجبهة، مع تداول صيغة للحل يجري مناقشاتها مع الأطراف، بإشراف الخارجية الأمريكية هذه المرة.
لا أحد بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض الذي يعكس لا أخلاقية التدخل العسكري والسياسي للسعودية وأبو ظبي في اليمن، فهدم الشرعية في مناطق تزعم الحكومة أنها تحررت في الجنوب؛ لا يمكن أن يعوضه افتعال مواجهات عسكرية بأجندات عسكرية منفصلة عن المشروع الوطني اليمني، على نحو ما يحدث في نهم.
يتعين على السلطة الشرعية منذ الآن أن تتحرر من وضعها الاستثنائي؛ الذي جعلها رهينة سلوك التحالف وانتهازيته وأهدافه الأنانية ومغامراته الحمقاء. قد لا يتحقق ذلك بالمواجهة المباشرة من التحالف؛ لأن شروط هذه المواجهة ليست في متناول قيادة الشرعية في ظروف الأسر التي تعيشها، لكن يمكنها استثمار حالة التذمر الميداني التي تتزايد في داخل اليمن، ورسم استراتيجية لمواجهة المخطط الخطير للتحالف.
إذ لا أسوأ من أن يستمر شركاؤنا السيئون في ابتلاع اليمن جيوسياسيا، ومسخ هويته السياسية، عبر ترتيبات تعيد تفكيكه وإنتاج سلطة غاشمة في كل من عدن وصنعاء وربما في عواصم أخرى في البلاد، مطابقة للمواصفات السياسية الرديئة المعتمدة في أبو ظبي والرياض.
* عن عربي21