تحدث موسيقى كرة القدم في كثير منها عبر مشاعرنا، انها اشبه بطقس شعائري تتشكل خلاله آلاف الانفعالات في تنقلات مقامية او بنية لحنية متعددة الاصوات. وما ان يكون في لحظة نهاوند شجي لمشجع يصبح صبا حزين لآخر. وفي لمحة يتحول سلم العجم "ألميجور" المرتكز على الدو بنغمة احتفالية، الى عجم مرتكز على السي بيمول وممتد في جنس الحجاز ليصبح شوق افزا فاجع.
يمكن لنا قراءة حقب كرة القدم بالطريقة التي نقرأ فيها عصور الموسيقى، بدءاً من النهضة، مروراً بالباروك وزخرفه المتأخر، اي الروكوكو، ثم الكلاسيكية وحتى الرومانتيكية الى الحداثة وما بعدها.
ليس هناك لعبة جماعية تضاهي كرة القدم في الابهار والروعة. في كرة السلة لا تمنح اليد ذلك الفضاء المدهش الذي تمنحه القدم؛ اليد محدودة الافق مقارنة بقدم تفعل كل شيء، وفي الملعب الاخضر لا بد ان تكون اليد محرمة. فكرة القدم بين الألعاب تمثل الكمال، كما البيانو بين الآلات الموسيقية.
كنت صغيرا وسألت ابي: من افضل لاعب في العالم؟ كان صيف 1985، ولم يُقم كأس العالم بعد. منذ يفاعته اعلن مارادونا للعالم انه الدهشة القادمة. وهو من دفعني وكثيرين لتشجيع الارجنتين.
ماذا فعل مارادونا؟
تطور الزخرف الكروي من خلال مهاراته المذهلة، كانت رقصاته وعنفوانه وقوته في الالتحام تعكس بعداً ثورياً. لقد سبقته الرومانتيكية الكروية مع كرويف، لكن كرويف يشبه موسيقى شوبرت، انسيابي وسلس. مع مارادونا عنفوان وجموح، هناك ثورية حالمة، مع هذا ستراه شاعر وصاخب وايضاً مخادع.
مع بيليه كانت كرة القدم كلاسيكية، أي تنميق فيها مقتصد وسلس، ومع مارادونا ستشاهد نابليون في الملعب، ومثله انتهت مسيرته خائبة ومأساوية.
كان جيفارا يحارب الامبريالية في ادغال افريقيا وبوليفيا، وحارب مارادونا امبريالية كرة القدم في الملعب، او هذا ما سنصوره رمزياً في الأنماط الكروية الأكثر تنظيماً وميكانيكية.
حاز جابرييل جارسيا ماركيز جائزة نوبل للآداب عام 1982، مرسخاً الواقعية السحرية كنمط ادبي اكثر المعية خلال العقدين الاخيرين من القرن العشرين. وكانت ارجنتين مارادونا المقابل الكروي للواقعية السحرية، مع انها البلد اللاتيني الأكثر اوروبية حتى في كرة القدم. فكثير مما قام به مارادونا يبدو فانتازياً، لأنه غير معقول، وواقعياً في نفس الوقت لأنه يحدث.
في النسخة السابقة، بطولة 1982، كرس سحر زيكو ورفاقه البرازيليين، حيزاً تراجيدياً لخيبة الجمال. الخسارة غير المتوقعة والخروج المبكر لواحد من اكثر المنتخبات جمالية.
لكن في ايطاليا 90، بلغت الرومانسية الحالمة لحظة انتكاستها مع غروب عصر مارادونا، ليس لخسارته فقط بل لنسخته الهزيلة والشبحية من البطولة السابقة. انها نهاية عصر في كرة القدم وايضاً في العالم السياسي، كما انها نهاية لاعب اسطوري. انهار جدار برلين ومعه سجلت البرجوازية انتصارها الكبير، حتى كرة القدم ستصبح سوقاً لشراهة رأس المال.
استعاد البرازيل سطوته الكروية عبر الواقعية الاقل سحرية في 1994. عالج البرازيليون مشاكلهم، ما فائدة الامتاع دون فوز. وفي نفس البطولة كان سقوط مخز لمارادونا، اذ عاد من باب المنشطات. تغيرت ايضاً ازياء العالم. ولأن النهاية كُتبت في بطولة سابقة، فان اعادة كتابتها اشبه بهزلية سوداء.
امتلك العصر البرجوازي كل جوانب الحياة، حتى الرياضة والفن. وبما انه عصر سادي بامتياز، فقد تطلب بعض الدموع، لتضفي على مكننته مسحة انسانية. بعد نهاية مأساوية امطرت مشاعر العالم دموعاً على موت الاميرة ديانا في 1997. والحدث الذي شغل العالم صُنعت دراميته مسبقاً في حيز التلصص لتسليع الفضيحة.
لم تعد مدام بوفاري، او الليدي تشاترلي وآنا كارنينا، بطلات في عالم تصنعه المخيلات الروائية، بل سيدات مجتمع حقيقيات يسلب الاعلام حيواتهن الخاصة. شكل الوعي البرجوازي وعياً سوقياً حتى للمأساة، سيبكي العالم على رحيل ديانا لكن قصص اكثر عذاباً ودراماتيكية، ثم ملايين الجوعى والمعذبين واشكال الابادات البشرية لم تستدعي نفس التعاطف والتفاعل، لأن للدموع قيمة في مسرح الحياة البرجوازي.
انها عودة خاطفة للرومانسيات، الاميرة تحب فتى مجتمع، بل انها تحب شاب ذو اصول غير انجليزية، الا ان ذلك الحاجز الطبقي نُسف مادام المجتمع يحدد بالمال.
في السينما عادت الرومانتيكية بثوب من الابهار، تيتانيك من انتاج 1997، انتاج ضخم ونجاح مبهر، توج الحاجة لتطهر عصرنا وبسماته الخاصة. احتياجات شريحة واسعة من البشر، لاستعادة عاطفة مفرطة. وكافأت هوليود هذا النجاح المبهر للفيلم عبر منحه 11 جائزة اوسكار من 13 ترشيح، مع انه ليس ايقونة فنية مقارنة بأفلام حظيت بتكريم اقل، لأن جماليتها اكثر من ابهارها.
انها لحظة تطهر من مادية موحشة. في التسعينيات سيتم احياء معظم التقاليع القديمة، بينما ستسود العالم نغمة الليبرالية.
حمل كاس العالم 1998، تلك الرغبة الاحيائية، استعادة زمن الفرسان، بوشكاش، بيليه، كرويف ومارادونا. في زمن الرومانسيات القروسطية كانت الفروسية مسرحاً للتخيل، ومثلها كرة القدم اتسمت في بعض الاوقات بمسحة اكثر غنائية. التطلع لخلق بطل او فارس؛ كانت الاضواء تحتشد نحو رونالدو البرازيلي اللاعب الاكثر سحراً في عصره، وايضاً الفرنسي زين الدين زيدان، القائد الذي يتمتع بشخصية قوية في الملعب اضافة الى اهميته كصانع لعب.
كذلك لعب الابهار دوراً بارزاً في احياء الفارس، صورة زيدان المنقوشة على جدار قوس النصر في الشانزلزيه وسط باريس، مع حشود جماهير تحتفل بالنصر. لم يقدم زيدان عروضاً مبهرة وكان بطل النهائي حيث استغل راسيتين من ركنيتين وسط غياب الدفاع البرازيلي. كان الفوز مبهر وليس اللحن، وهكذا تم احياء دور الفارس.
عادت البرازيل لتتربع على عرش كرة القدم مجدداً في اول بطولات القرن الواحد والعشرين. كانت البطولة الأبهت في تاريخ كأس العالم. مع بعض سحريات رونالدو وريفالدو. انه عصر موسيقى البوب، والاشكال الموسيقية الهجينة.
في ازهى مراحل الكرة الهولندية تعزف لحنا اوركستراليا، بينما تمنح الكرة اللاتينية مساحة اوسع للوسوليست.
ازدهر الغناء الاوبرالي في ايطاليا، وحين تقدم الكرة الايطالية عروضاً مبهرة فإنها تمتاز بمسحة اوبرالية. فدور السوبرانو، اي الطبقة الصوتية الأكثر حدة، او الباص الأشد غلظة هو المساحة الفردية لكن التلاحم يمتاز به الكورال.
تتمتع السامبا بإيقاعية راقصة وسريعة انسيابية. يحب لاعبي البرازيل السرعة والتفنن ايضاً بتحريك الوسط. تحريك الوسط لا نجده لدى لاعب اوروبي وحتى ارجنتيني، ليس هناك مسحة شرقية فالتانغو تعتمد على حوارية وايحاء. وفي الكرة الألمانية سنرى رياضيات باخ؛ فوجات تنتظم فيها الخلايا اللحنية كمعادلة رياضية. لكنها ليست بتلك البراعة اللحنية، اذ ان موسيقى التكنو الهجينة احد ابتكارات المانيا في ما بعد الحداثة، وهكذا سنرى طبيعة الكرة الميكانيكية تنجزها المانيا.
فازت ايطاليا ببطولة 2006، والمانيا ببطولة 2014، لكن سيظهر واحد من اكثر المنتخبات جمالية في تاريخ العالم، المنتخب الاسباني. لم يظهر بكل جماليته في كأس العالم 2010، لكن بين 2008 حتى 2012، قدم راقصي الفلامنكو اجمل كرة قدم شاهدتها انا بالنسبة لما قدمته المنتخبات خلال عقود.
كان مدفوعاً بسحر التيكا تاكا لفريق برشلونة، وهو الفريق الذي لطالما اعتبرته في تلك السنوات صاحب الكرة الأجمل في تاريخ اللعبة، او على الاقل لما شاهده جيلي، وإن تفاوتت الآراء.
يقول ازرا باوند الشاعر الامريكي ان على اللغة ان تكون بحدة الآلة، او شيء من هذا القبيل. بمعنى ان يكون الأدب ممثلاً لعصره. في الموسيقى لم تجعل التكنولوجيا الموسيقى اكثر جمالاً وإن بدت اكثر عصرية. لكن القصد المجازي لباوند فنياً؛ طبقه مايكل جاكسون في الرقص، تكنيكه المبهر مع الخفة ومستوى حركات لم يقدمها احد، وفي كرة القدم طبقها ليونيل ميسي، وبصورة اقل فنية رونالدو البرتغالي. مع ميسي اصبحت الكرة تزاوج خلاق بين التكنيك المبهر والشعرية المتحررة من كل ما هو زخرف. هكذا تنتقل الكرة من مرحلتها الكلاسيكية الى ذروة الحداثة، ومن قانون الكم الى نظرية الأوتار الفائقة.
نقلا من صفحة الكاتب بالفيسبوك