في سنوات حكم بيت حميد الدين لليمن في ظل الدولة المتوكلية انتشر بين الناس ما يسمى بـ"الطاهش"، وهو حيوان مفترس يخرج بالليل، ويلتهم الانسان على حد قولهم، وينتشر في الارياف بشكل كبير.
هذا الحيوان نسجت حوله الاساطير والروايات، خاصة فيما يتعلق بشكله، وهيئته، وطريقة تعامله مع فريسته، التي هي الانسان في المقام الاول، وتحول لمصدر تحد عند البعض، وهو يقارعه، بينما تحول ايضا الى مصدر رعب لدى الآخرين، وهم يخشون مواجهته.
كانت الناس من هول ما تسمع عن وحشية ذلك الحيوان تغلق ابواب بيوتها الصغيرة في ذلك الزمان عند آذان المغرب، وتعاود فتحها مع الفجر، وتتخذ كافة المحاذير والاجراءات التي تضمن لها عدم تعرض الطاهش لها، ناهيك عن مجرد التفكير بالسفر ليلا، او الخروج تحت أي ظرف من الظروف.
شخصيا سمعتُ وانا صغير في قريتي بمديرية مذيخرة التابعة لمحافظة إب والقريبة من محافظة تعز الكثير من تلك الروايات الشعبية التي كان الناس يتناقلونها بينهم عن الطاهش، وافعاله، وكيف كان يتحرك؟ والاماكن التي يزورها، والطرق التي يسلكها.
كان ذلك في اواخر الثمانينات، وهي فترة ازدهار الوعي لدى اغلب اليمنيين بعد انتشار التعليم والمدارس، وكانت تلك الاخبار عن الطاهش تمثل، بقايا الكلام العالق بذاكرة اليمنيين عن الطاهش المترسبة منذ العهد الامامي، حيث كانت المدن والارياف قرى متشابهة، تختلف فقط من حيث العدد السكاني، وبعض مظاهر الخدمات الخفيفة.
ولعل المجموعة القصصية القصيرة المسماة بطاهش الحوبان للأديب اليمني الراحل زيد مطيع دماج، والمكونة من تسع قصص قد وثقت لأسطورة الطاهش بشكل كبير، وكشفت حقيقته، والتهويل الذي حظي به في أذهان الناس، وكان اختيار منطقة الحوبان لكونها كانت تمثل مركزا للسفر عبرها من وإلى تعز، ولذلك انتشرت حكاية الطاهش فيها بشكل كبير، مثلها مثل باقي المناطق والقرى اليمنية.
مع العلم ان المؤلف زيد دماج استند في روايته على قصة قال بإنها حقيقية، وتعرض لها النقيب عبد الله بن محمد أبو راس في منطقة الحوبان التي كانت مليئة بالاشجار وبعيدة عن المدينة، كان ابو رأس في مهمة لمقابلة الامام احمد في تعز، وصادف سفره في الحوبان لقاء الطاهش، ودخل معه في معركة انتهت بمقتل الطاهش، وانتصار ابو راس الذي كان الامام يتربص به، وهي رواية سردها زيد دماج في هامش كتابه عن طاهش الحوبان.
حين كبرنا انتهت تلك الاسطورة المخيفة عن الطاهش، وتلاشت وانتهت تماما تبعا للعديد من العوامل، ابرزها انتشار التعليم بشكل واسع في الارياف، ودخول الكهرباء للمنازل، وسهولة التواصل بين المدن بعد شق الطرق، اضافة لظهور وسائل التكنلوجيا، فسافر الناس ليلا، وعملوا، ومارسوا مهنهم، وتحركوا شمالا وجنوبا، ولم يواجههم الطاهش!
وحين كبرنا ايضا لم نرى الطاهش بين الحيوانات، ولم نعرف حتى شكله، فقد رأى الناس الاسود، والنمور، والذئاب، وغيرها من الحيوانات، لكنهم حتما لم يروا الطاهش، ولم يعرفوا ملامحه وشكله، ولذلك تحول الى اسطورة وخرافة ترمز للكذب والتهويل والجهل.
مناسبة هذا الحديث عن الطاهش جاءت من تواصل مع أحد الاقارب في اليمن، وذكر في حديثه إن الطاهش قد عاد للقرية، وإن الفزع يدب لدى السكان، وإن الكثير من الناس قد شاهدت بالفعل الطاهش، وهو يخرج ليلا، ويتحرك في الظلام، وللمفارقة فالمكان الذي يتحدث الناس ان الطاهش يخرج منه، هو نفس المكان الذي كان الأولين يتحدثون عن وجود الطاهش فيه.
ذلك المكان الذي اتخذه الطاهش سابقا كمكان إقامة له خلال سنوات الائمة عبارة عن كهف كبير يقع على جنبات احد روافد وادي زبيد، والذي تبدأ منابعه الاولى من القرية التي أسكن فيها، وهو كهف يقع في اسفل جبل، وتشكل فعل نحت السيول لصخور الجزء الاسفل من الجبل، وحولته الى لحد جانبي شبه مظلم، وتحيط به الاشجار، وتمر من امامه المياه التي لا تنقطع.
وبقدر ما كان الحديث عن عودة الطاهش للقرية ضاحكا، بقدر ما كان صادما، إذ كيف يصدق الناس بعد هذا الوقت من عمر الجمهورية، وانتشار وسائل التواصل التي باتت في يد كل مواطن داخل القرية أن الطاهش حيوان حقيقي، وقد عاد فعلا الى ممارسة وحشيته الزائفة.
بالنسبة لقريتي وغيرها من القرى المجاورة فهي تقع تحت حكم الحوثيين، وهم الاماميين الجدد، فهل يعقل أن أحفاد الائمة بنسختهم الثانية من العودة، قد عادوا ومعهم الطاهش ايضا!.
كيف ألتقى كل هؤلاء من الاجيال المتعاقبة؟ جيل الائمة الجديد، وجيل الطاهش، الذي سيكون بالضرورة هو حفيد أجداده السابقين، وجيل الوهن والضعف من الناس الذين لازالوا يؤمنون بوجود الطاهش، وباتوا يوروثون حكاية الطاهش للاجيال الجديدة.
وكيف استطاعت مثل هذه الافكار ايضا التسلل الى حياة الناس، وكيف إن حياة التضليل والزيف التي مارسها الائمة اتصلت ببعضها، ومن المسؤول ايضا عن عودة هذا التضليل الذي لم ينقطع رغم 55 سنة من عمر الثورة اليمنية التي قضت على الطاهش السابق ومن يقف خلفه؟
لقد كان الجهل والخرافة والدجل احد الوسائل التي ساعدت الائمة في السابق على البقاء، وعبر مجموعة كبيرة من الاساطير والخرافات هيمن هؤلاء على رقاب الناس، وحكموهم لقرون من الزمان، واليوم تعاود هذه السلالة حكم اليمن بنفس الوسائل والادوات، رغم الفارق الكبير بين العصرين.
اليوم تعود السلالة للحكم في ظل توقف العملية التعليمية، وجمود العمل في المدارس، وعودة الفقر بعد توقف مرتبات موظفي الدولة، وفي ظل انفلات أمني، بسبب سوء ادارة هذه الجماعة للملف الامني، وتعاملها مع هذا الملف بما يحفظ بقائها، ما يعني هيمنة اجواء الفقر والجهل والخوف والمرض من جديد في حياة اليمنيين تحت حكم هذه السلالة البغيضة.
إن الطاهش المزعوم هو الجهل والدجل الذي تمثل الحوثية اليوم دعاماته ورافعاته داخل اليمن، وهو الوسيلة المفضلة لها في بقائها وسط الناس، وممارسة فكرها المتخلف، واعادة زرعه وتقوية مداميكه بين الناس، وبدون ذلك لن تستطيع البقاء والهيمنة والتسيد على الناس.
الطاهش الجديد هو عدو اليمنيين التأريخي، والسلاح الفتاك الذي يقتله، هو العلم والتعليم، والاصطفاف النخبوي للجميع في مواجهة هذه الآفة التي تنخر ماضيا وحديثا في الجسد اليمني، وتحيل مجتمعه الى مجموعة من الكتل البشرية المسخاء التي لا تفكر، وتنتظر ولاة الامر الجدد أن يفكروا بإسمها وبقداستها، حتى تحميمهم من الطاهش على الدوام.
لقد ناضل اليمنيون لعقود في سبيل التحرر من الطاهش السابق، وكان قدرهم الانتصار على تلك الضلالات والاراجيف، واللحظة اليوم تقتضي من جديد ان يواجه اليمنيون جميعا الطاهش الجديد، ليذهب الى الابد ليس الى جحوره السوداء، وكهوفه المغلقة بل الموت والفناء.