في نقاش مع صديق, انفتح قبل عام, ولا يزال متواصلا, وهذا الصديق بالمناسبة أحد كتاب الأدب البارعين, خلصت رؤيتنا المشتركة تقريبا إلى أنه أصبح من الضروري على جيلنا اعطاء الشأن السياسي أولوية مقارنة بالاهتمامات الأخرى، دون ان يعني هذا التخلي عن هذه الاخيرة أو التقليل من أهميتها.
لا يمكن تحقيق الخلاص, دون اهتمام جدي بالسياسة, ويبدو أن الشباب هم المعنيين بالأمر أكثر من غيرهم. خصوصا أنهم الجيل الذي ولد من رحم المتاعب, وأمتلك صوته لأول مرة في ثورة فبراير بما وفرته من سياق أوجد امكانية ان يحقق هذا الجيل لذاته, بل ما يجعله قادرا على أن يرد الاعتبار لكل القيم والمعاني الجميلة وايضا لكل نضالات اليمنين, فهناك محطات كثيرة مشرقة وقعت فريسة للظلام قبل اكتمال بزوغها النهائي بلحظات.
في احدى رسائله يقول هذا الصديق "على العكس من نماذج مثقفين يمنيين وعرب انكفأوا على أنفسهم وفضلوا عدم الانخراط بالسياسة؛ يمكن للأدب أن يكون ثوريا ويجب أن يمتلك الكاتب أي كاتب هما سياسيا لأن هذه الأخيرة هي من تصنع الملامح الاقتصادية والاجتماعية العامة للناس في أي بقعة".
أما السؤال المطروح على جدول أعمال اللحظة الراهنة, والذي أصبح من الضروري التصدي له وامتلاك اجابات وافية بشأنه, هو "كيف بإمكاننا التصدي لواحدة من اوسخ وألعن الثورات المضادة التي تتكشف وجوهها القذرة يوما بعد آخر، لاسيما وقد غدا كثير ممّن كنا نعتقدهم مثقفين مجرد ترس في عجلة هذه الثورة المضادة؟
يؤكد هذا الصديق الذي لم أقدر على كتابة رد له, واقتصر دوري على ابداء اعجاب صامت بكل هذا الوضوح الذي أصبح يمتلكه, يؤكد أنه علينا التغلب على جملة الظروف التي نمر بها, ونكرس أنفسنا للمهمة الاساسية, والتي أصبح محورها محاولة فهم كل هذا الذي يحدث لنا والجذور الاقتصادية والاجتماعية الكامنة خلفه, كمقدمة لإكساب أي نشاط سياسي معنى حقيقي.
ثم يضيف "علينا أن نعيش الزمن الفعلي حقا، المتجرد من أي زوائد أو تدليس، أن ندرك تماما كنه اللحظة الفارقة هذه وكيف أن التذكير بعظمة فبراير والبناء عليه سيشكل فارقا في الزمن القادم".
ما يجعلني أندهش برسالة صديقي, الذي اكتب هنا دون العودة إليه, وفضلت عدم الافصاح عن أسمه, لأنني لم آخذ أذنه وليس لأن في الامر خطورة من أي نوع, ما أدهشني حقا, هو انه شخص يمتلك الموهبة الكافية, ويمكنه ان يتفرغ للأدب كما فعل كثيرين, وتحقيق انجازه الشخصي. لكنه يفضل أن تصبح السياسة أولوية لديه, وهي الرؤية التي كنت قد توصلت لها, بعد دراسة متأنية. فحجم التركة ثقيل جدا, والانصراف دون خلخلتها وتبيان الطريق بعد ذلك, هو بمثابة خيانة سوف يقترفها كل من يعي مثل هذا الامر.
ثم أنه لم يعد زمن الخلاصات الفردية, حتى مع توفر امكانية لتحقيق ذلك. أي معنى للخلاص الفردي يا ترى بينما الناس تموت جوعا. وكيف يمكننا الاطمئنان إلى أن مستقبلنا سيغدو مختلفا, في ظل أن المجال العام أصبحت تهيمن عليه التفاهة والكثير من الخيانات. كل النخب التي عرفناها حتى الآن ان كان يصح ان نقول انها نخب, بما فيها تلك التي تتحلى بحسن النوايا, جميعها عاجزة عن فهم حجم المأزق. عوضا عن أنها نخب أثبتت الاحداث كم أنها مأزومة. لهذا انكفأ قسم منها, بينما القسم الآخر ذهب ليبيع بعض الموهبة التي تحصل عليها في مزاد علني. في خيانة للثورة والناس, وهناك من لا يجد سوى السخط والتذمر وكأن الزمن قد توقف عند هذه اللحظة.
لا حل أمامنا اليوم سوى بتجاوز هذه النخب, والبدء في اجتراح ملحمة أخرى, تكمل ما بدأته ثورة فبراير.
من حق هذا الشعب ان يحصل على حياة كريمة. فهو قدم كل ما ينبغي عليه تقديمه للظفر بالخلاص, لولا هذا التقاعس وكل تلك الخيانات من قبل أولئك الذين "درجو على تمجيد الاقوياء". فهم عندما مجدوا الشعب في لحظة التحامه واندفاعته, لم يقوموا سوى بدورهم المعتاد, ما يفسر كيف أنهم عادوا لتمجيد الطاغية في لحظة شحوب عابرة لا تنتمي للتاريخ.
واذا كان هناك كلمة تستطيع أن تلخص طبيعة مهمتنا الحالية, أو ما نستطيع من خلاله تحقيق عملية التجاوز لكل حالة البؤس القائمة, فهذه الكلمة هي "الوعي". معركتنا الحالية تقع في حدود اكتساب الوعي المطابق لمصالح الغالبية العظمى من الناس, وتأسيس خطاب سياسي بديل يعيد توحيد الجموع من جديد خلف أهداف ثورتهم على طريق انتزاع خلاص كامل ومعتبر.
لكن قبل ذلك معركة الوعي هذه تفترض أن ندرك جيدا لماذا علينا أن نختار هذه المعركة دون سواها, أو بمعنى آخر لماذا علينا ان نجعل من الشآن السياسي في صدارة أولوياتنا؟
الاجابة هي أن الازمة عميقة, ولا يمكن حلها دون ان يكون هناك جهود واعية, تقبل أن تكرس نفسها لصالح الناس وفي سبيل الانتصار لهم. وتعي جيدا أي واجب اخلاقي وانساني تنطوي عليه مهمة من هذا النوع. بل ومن أجل أن يصبح لكل اهتماماتنا الآخرى معنى وسياق يسمح بجعلها اهتمامات مجدية.
في النهاية أخبرني ما هو حلمك في هذه الحياة ما هو مشروعك المستقبلي, وسأخبرك أن الاهتمام بالسياسة واعادة الانتصار لها, هو مقدمة ضرورية من أجل الانتصار لكل الاحلام والمشاريع الخاصة والعامة. بدون الانخراط الواعي في السياسة وبدون الجدية اللازمة, فكل الاحلام والمشاريع بما فيها تلك التي قد تحققت أو هي الآن في طور التحقق, جميعها سوف تغدو في مهب الرياح مع أول أزمة سياسية قادمة لطالما بقت الادوات الفاعلة في هذا الميدان الحساس هي نفسها الادوات الفاعلة اليوم. ولكم أن تتخيلوا كل تلك المصائر التي تحطمت خلال هذه الحرب المستمرة منذ ثلاثة أعوام, وكيف ان تلك الحياة التي كانت بالنسبة لكثيرين وادعة ومرتبة وبمنأى عن أي سوء, كيف أنها غدت مجرد هباء منثور.
*المقال خاص بالموقع بوست