لم أجد حتى هذه اللحظة تفسيرا لكل ما يحدث في اليمن، فهذا البلد الذي يفترض أنه يشهد حربا ألقى الإقليم كله بثقله فيها، تتحول فيه هذه الحرب إلى أقل مظاهر التوتر والعنف حضورا وتأثيرا في مجرى الأحداث على الرغم من تداعياتها الإنسانية شديدة الوطأة نتيجة الأخطاء التي لم تتوقف حتى اللحظة، فيما تبرز على هامش الحرب مشاريع إقليمية سياسية وجيوسياسية محمولة على قدر لا يحتمل من الانتهازية والاستعلائية.
الحرب الأكثر خطورة وكارثية التي يترقبها الناس، ليست هذه التي يخوضها التحالف بوتيرة مثيرة للإحباط، عبر طائراته التي تأتي من وراء الحدود، وعبر الكتائب المحبطة من الجيش الوطني بسبب تقتير التحالف وشحه وحذره وتوجسه وقلة إمداداته.
بل الحرب المخيفة التي يمكن أن تنفجر في الساحة الملغومة، الواقعة تحت سيطرة الانقلابيين ويفرضون عليها نفوذهم، لأنها إن اندلعت فسوف تُخاض من جانب طرفين سيئين، كحرب وجودية بلا أخلاق ولا قيم ولا سقف إنساني، وفي بيئة شديدة التعصب، زوايا الوعي فيها معتمةٌ، وتنحدر فيها قيمة الإنسان إلى مستوى الصفر تقريبا.
بعض من مظاهر الحرب بالمعايير السيئة السالفة، شهدناها في تعز وعدن على أيدي الكتائب الأكثر تعصبا التابعة للميلشيا، ولا تزال تعز تدفع ثمنها إلى اليوم.
لا أحد يمكن له أن يجادل في تقييم المركز السياسي والعسكري للمخلوع صالح فقد تراجع لحساب الميلشيا الانقلابية التي سلمها الدولة والإمكانيات وأراد أن ينجز مهامه الانقلابية بأدوات شديدة السوء كهذه الميلشيا.
لكن الحوثيين الذين خبروا صالح طيلة أكثر من ثلاثة عشر عاما من المواجهات والعلاقات السيئة كانوا أكثر يقظة منه في استثمار اللحظة الانتهازية التي توفرت في عام 2014، واستغلوا السلسلة العنقودية من الولاءآت الفئوية المنتشرة في جسد الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية والعسكرية للمسارعة في بسط النفوذ والسيطرة الكاملة عليها.
المخلوع صالح يدرك جيدا أن نفوذه لم يعد بمخالب مادية كافية لإنجاز استحقاق الخلاص من شريكه اللدود بضربة واحدة، لذا قرر أن يستعير هذه المرة أدوات ثورة فبراير 2011، لإنقاذ مشروعه السياسي العائلي الذي يكاد الحوثيون أن يبتلعونه بشكل كامل.
راهن على الساحات وحشود المظاهرات لإضفاء المشروعية السياسية والجماهيرية على دوره وحضوره، والتي كان آخرها الحشد الذي دعا إليه في ميدان السبعين الخميس الماضي.
الرسالة التي لم يفهما المخلوع صالح هي أن الناس جاؤوا بحثاً عن الخلاص من الانقلاب الذي أتى بالحوثيين وتسبب في تجريدهم من كل مقومات الحياة ومن الكرامة ومن الأمان عن النفس والمال.
خرجت حشوده محبطة لأنه استغلها ليمارس غوايته في اللعب بالأوراق وتوجيه الرسائل الغامضة، وتركها لعبث الحوثيين وجبروتهم.
والأهم أن على المخلوع صالح أن يدرك أن هذه الساحات لم تعد مهمة الآن فخصمه العنيد، وأعني به الحوثيين جاء من الساحات، هناك حيث انزرعوا فيها بالتزامن مع الصفقة السياسية التي عقدها صالح مع الميلشيا للإطاحة بثورة الشباب السلمية ومصادرتها، وتقويض كل النتائج السياسية التي جاءت بها، بما في ذلك النظام الانتقالي التوافقي برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي.
فالحوثيون حاصروا التجمع الجماهيري الأكبر للمخلوع صالح الذي عقد في ميدان السبعين بصنعاء في الـ: 24 من آب/ أغسطس إحياء للذكرى الـ: 35 لتأسيس المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه المخلوع صالح.
مارسوا الكثير من المضايقات لجمهور المؤتمر وقياداته، ثم قاموا باستعراضهم العسكري في ميدان السبعين فور انصراف جمهور المؤتمر، فيما يشبه الكنس الكامل لكل النتائج السياسية والمعنوية التي ترتبت على هذه التظاهرة.
وعلى الرغم من تكرار رسالته العدائية نفسها للتحالف في كلمته المقتضبة التي ألقاها في حشود السبعين، فإن المخلوع صالح، متورط لا شك في ترتيبات تضمر نوعاً من التخادم مع هذا التحالف، الذي لم يعد يراهن على استمرار الحرب وإنجاز أهدافها المعلنة، قدر مراهناته على ترتيبات توفر لصالح وللقوى المشابهة له فرصة الاستمرار في التحكم بمصير اليمن خلال المرحلة المقبلة.
هذا قد لا يعني بأي حال أن التحالف عمل كل ما عمله في اليمن من أجل إعادة تمكين صالح، بل يعني أن التحالف لن يجد أفضل من بيئة سياسية صالح والحوثيون أحد أطرافها لكي يستمر في السياسية الخطيرة التي تعبر عنها أبو ظبي بشكل وقح وسافر ومتعالي، وتضمرها الرياض.
من أبرز مظاهر هذه السياسة التخطيط لإعادة تجزئة اليمن، ومنع القوى اليمنية من الاستمرار في تبني مشروع الدولة الاتحادية بالكفاءة التي تجعل من هذه الدولة معبرة بحق عن أهميتها الجيوسياسية وثقلها السكاني الكبير في شبه الجزيرة العربية.