وفي الجحيم تأكد لي ان اليمن لن يتغير بعد قرن او قرنين.
تتسم الجدران في مدخل الجحيم بمبالغة زخرفية؛ كنت اسير وحيداً ولم ار شخص. اتخذ المدخل مساراً لولبياً، والحرارة تتصاعد مع تقدمي. وفي بهو واسع تحشوه زخارف من عصور مختلفة، يتوزع اشخاص يرتدون ملابس طيور مبهرجة بالوان غير متوافقة، يقفون جامدين دون حتى ان ترمش عيونهم. وعلى مسافة كانت سلالم موزعة كشبكة عنكبوتية؛ متاهية يصعب السير خلالها في الاتجاه الصحيح دون مرشد او دليل. لهذا تاه كثيرون فترة قد تصل عام او اكثر، حتى يبلغوا اغوار عذاباتهم في الجحيم.
التقيت باحدهم وهو رجل خمسيني من ابناء بلدي يرتدي ملابس تقليدية رثة، و"جنبية" قال انه تاه وشيخه منذ اكثر من عام.
ما الفائدة من وجودهم؟ تساءلت واشرت للواقفين هناك كالأموات. اولئك يتدخلون بقسوة، حين يتسبب احدهم بفوضى. شعرت بالحرارة تتدفق من مناخيري كما لو اني على مشارف الابواب الداخلية لحمام ساخن، ربما اكثر حتى لا اهون الامر؛ وهي سخونة منبعثة من سعير النار في الحفر الداخلية.
بدأ صوت غليان ينهمر من الداخل. كان الرجل يمسك سلاح آلي ذو شكل مختلف عن تلك المألوفة لنا، وهو مزدوج للرصاص والليزر. وباليد الاخرى لا يتوقف عن ملئ فمه بالقات من كيس كبير مصنوع باغصان اعشاب. وكأنه ادرك مفاجأتي بوجود القات، مد لي ملئ راحة يده منه، دافعاً جذعه من كرسي جلدي ارجواني اللون، لكني اعتذرت لأني لست بمزاج ملائم.
"القات من اشجار النار،" قال بصوت شديد الغلظة، رغم ضآلة جسده، كان يحرك ذراعه وانتبهت حينها للملصق "الليبل" على الكم الايسر لجاكيته الكالح، واضاف؛ "نحن محظوظين هنا؛ في الجنة يزرعون العنب والنخل وانا لا احب الخمر."
وكما يبدو ان نوع القات هنا تأثيره اقوى بكثير مما هو في الأرض. اكد لي مستمرا في حشو فمه بالأغصان القابلة للمضغ بأكملها، انه لم يذق في حياته كهذا القات. كان يتحدث وتجاعيد وجهه المحفور كشحوب مومياء، تتحرك بافراط، وجلده الشاحب يبدو دبقاً نتيجة الحر. وما ان يصمت تلوح اثار خدره فلا يكاد يسمع ما اقول له.
حدثني عن كثير من الأشياء التي شاهدها هنا، لكنه استدرك بأن الجحيم ليس مخيفاً، على الاقل ليس كما صور لنا. يعاني فقط من رغبة بتدخين السجائر، وإن كان التبغ متوفر، لكن لم يكن متاحاً في لفافة سجائر. وعقب بأنه سيرى اذا كان يمكنه تدخين "مداعة" في الداخل.
في تلك اللحظة تصاعدت اصوات موسيقية، لاحظت انها متعددة الاصوات لكنها غير متوافقة. ما يجعلها تصدر الحاناً مُربكة وناشزة تثير اثباط وتحرك قلقاً وضربات قلب مريعة. سددت على اذني لكن ذلك الرجل لم يكن يعنيه امراً من ذلك؛ واستمر يغرس اعواد القات في فمه، كما لو اعتاد على موسيقى كتلك. واكد بان كثير من الزوامل تُذاع هنا.
قلت دون ان اخفي نشوة استعراض: انها موسيقى غير متوافقة. كنت اعرف انه لن يستوعب ما اعنيه، دون ان انسى اضافة ان ذلك ربما شكل من اشكال العقاب.
فجأة سمعت صوت خلفي يقول برخامة: كُرد.
عرفت صاحب الصوت، تلفتُ فاغراً فمي مموهاً ضحكة كادت ترتسم. هل اتى الصوت من عالمي في الارض. ربما كانت اطياف من بنات افكاري تريد ايقاعي في الضحك، لاني احسست ببسمة تدحرجت في وجهي لولا ان الذهول اغرقها. ففي مرحلتي المقامية المُتأخرة، كان اصدقائي يسخرون من آرائي الموسيقية فيشيرون للاغنية التي اقلل منها باعتبارها "كُرد". وهذا المقام الخالي من ربع الصوت، صار سمة معظم الاغاني العربية المعاصرة لنا.
عاد ابن موطني، والذي ينتمي للمجتمعات القبلية، ليغرق في نشوة القات. ولاحظت شخصاً يتقدم نحوي من اول البهو، ذو كرش بارز ويد مقطوعة، ويرتدي ملابس تعود لنهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر في اسبانيا. اعتقدت ان مواطني الذي انتابته حالة ذهول رهيبة، عاش قبل زمني. لكني احببت سؤاله، متى عاش؟
قال انه ولد بعد انهيار الولايات المتحدة الامريكية، كان اخر عام يتذكره 2155. عدت اركز نظري الى الملصق في كم جاكيته المهترئ، كما لو انتبهت له للمرة الاولى. داهمتني مشاعر مختلفة لا اكاد اعرف تمييزها من كثر تزاحمها، لكني شعرت برغبة للصراخ، لولا خمول تخلفه سخونة المكان.
تلقائياً امسكت على رأسي لا ادري هل اخفي ضحكة او بكاء. اصلح من شاله مرة اخرى مغضناً وجهه الدبق، وعلق: انتم اصحاب... لكنه سكت دون ان يكمل عبارته.
في الكوميديا الالهية عبارة تهيأ لفصول الجحيم، "اتركوا الأمل ايها الداخلون هنا." لكني اردت استخدامها بطريقة اخرى. لاني فقدت الامل، فبعد مئة وخمسين عام لن يتغير شيء في اليمن. ما الداعي اذن من عودتي الى ذلك الجحيم الارضي، ما دمت في هذا الجحيم السماوي.
عادت الموسيقى تعلو ثم تنخفض بالحان غير توافقية، ايقاعات مركبة صاخبة لا تتسق مع الألحان، ولم يكن الايقاع جزء من الموسيقى متعددة الاصوات. لكن الصوت الغامض عاد ليهمس في اذني: كُرد. لعلها كانت مزحة ظريفة في الجحيم، لتخفف من يأس قاتم ينخر صدري.