لم ينشأ الظلم وتسلط الطغاة على شعوبهم من فراغ؛ بل إن هناك عوامل تاريخية ودينية واجتماعية واقتصادية ساعدتهم على الطغيان، وللشعوب نفسها اليد الطولى في ذلك لأن الطاغية لا يولد طاغية؛ بل يستخف قومه عند هوانهم، وتُنمِّي جنين فرعنته هي في أحشائها، وتخلقه في نفسها وعمق مشاعرها أولاً، ومن ثم يتم القفز من على ظهورهم الى سدة العرش والسلطان.
فكانت تجارب الحكومات الديمقراطية الحديثة نتاج إنساني شامل، وملك للإنسانية والإنسان في كل زمان ومكان بدون تمييز على أي أسس دينيه عرقية أو مذهبية، ولا ضير من الأخذ بتلك التجربة طالما أنها لا تتعارض مع الدين، ولا تستهجن عرقاً أو تحرم فرداً من حقوقه المكفولة ديناً وقانوناً.
وذلك ما أنتجته الأمم من خلال قادة الفكر والمجتمع؛ الذين أيقنوا بضرورة تقبل الكل للكل، والبعض للبعض الآخر، وأدركوا معنى أهمية الاستقرار السياسي الذي ينعكس إيجاباً على حياة المجتمع كلية اقتصاد وأمن علم وإبداع وتنمية بشرية، كما أدركت الشعوب اليوم أن الطغيان الفكري، والكبت السياسي، والتفرد بالحكم هو السبب الرئيس وراء التخلف الفكري والعلمي والاقتصادي، وأنه المصدر الأوحد لكل الرذائل الاخلاقية والسياسية الحالَّة في المجتمعات العربية والإسلامية اليوم.
ولقد درس رواد الفكر والعلم في كل أمة منهجية الحكم الديمقراطي وكيفية تبنيه على غرار ما فعله المفكر والقاضي الفرنسي "دي كفيل" في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والذي حمل هم البحث عن منهجية حكم وفلسفة مناسبة لتطبيق مبدأ تداول السلطة في بلاده فشدته التجربة الفتية في الولايات المتحدة الأمريكية التي عرفها وأصدر دستورها وصاغ مبادئها الديمقراطية "توماس جيفرسون" بقوله: "جميع الناس خلقوا متساويين، وقد وهبهم الخالق حقوق الحياة والحرية، وحق السعي وراء السعادة حقوقاً ذاتية كامنة فيهم ولا يجوز التنازل عنها بأي حال من الأحوال" فدرسها وأمعن النظر في مبادئها، ثم عرضها على النخب الفرنسية المؤهلة للحكم والقيادات الوطنية فاستجابت بصدق لفكرته وأخذت بها.
وبرغم إيمان الكثير من العرب والمسلمين بتلك النظرية التي سبقهم فيها الفاروق عمر رضي الله عنه نظرية العدل والمساواة بين البشر حينما قال لعمر بن العاص "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" وفقا لما جاء في شريعة الإسلام، حيث أطلقها صريحة والناس يعيشون في دياجير الظلم عند باقي الأمم التي كانت تصنف الناس إلى معادن ودماء تتمايز بها وتتسلط من خلالها أقلية على باقي الطبقات، وإيمان الشعوب العربية والإسلامية وعلى رأسهم الحكام الذين يؤمنون بها علناً ويعارضونها في السر.
وكما يعتقد الكثيرون بأهمية عودة الخلافة الإسلامية بنظامها التقليدي، وهيكلها التاريخي القديم، ويعتبرون ذلك مبدأ أساسياً من مبادئ الحكم في الشريعة الإسلامية وواجباً مقدساً لا بديل عنه، إلا أنا نعتبر ذلك وهماً كبيراً إن صح توصيفه بذلك؛ لأن مقتضيات ذلك العصر تختلف جملة وتفصيلاً عن ضرورات العصر الحديث ومتطلباته؛ بسبب اعتمادها على منهجية وقواعد حكم غير واضحة لا يمكن استلهامها والعمل بها في العصر الحديث.
وذلك لأن آليات التطوير والتحديث متغير لازم بدأ العمل بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خلافته ابتداء باعتماد اسم أمير المؤمنين لولي الأمر بدلاً عن خليفة خليفة رسول الله وانتهاءً بابتكار نظم القضاء والعدل والنظم المالية والمحاسبية وتطبيق مبدأ الذمة المالية على ولاة الأمصار ومحاسبتهم والاقتصاص منهم أمام لملأ وقلما طبقها أحد بعده في عالمنا المعاصر.
ولقد درجت الكثير من أنظمة الحكم العربية ومنها اليمن في القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين على الظلم والتمييز العرقي فكان الشعب اليمني أحد الضحايا حيث استغلت أنظمة الحكم فيه عاطفته الدينية فدمرته وحطمت قيم الناس الانسانية وحولتهم إلى أشباح وهياكل عظمية تسير تائهةً منزوعة العقل مسلوبة الإرادة معتمدة على نظم حكم بدائية تقليدية، تقوم على رؤية الحاكم المطلق التي تحقق فقط مبدأ ديمومته في الحكم وتوريث شعبه لمن أراد.
وتلك هي المعضلة الجسيمة التي أعاقت حياة الشعوب العربية والإسلامية ومنها اليمن، فتخلفت عن اللحاق بركب الحضارة الإنسانية الصاعدة تدريجياً دون توقف، الأمر الذي جعلها في مؤخرة الصفوف على كل المستويات.