قالت العرب قديماً إن «المعنى في بطن الشاعر»، ذلك يوم أن كان «الشاعر» يمثل نبيَّ القبيلة وكاهنها الأكبر، الذي يتصل بالجن ويُلقنه الشعرَ أحدُ الشياطين، حيث كان لكل شاعر «قرين» يناوله الحروف والأجراس، يوم أن كان الشاعر يقول:
إني وكلُّ شاعرٍ من البشرْ
شيطانهُ أنثى وشيطاني ذكر
ويوم أن كان للشعراء طقوس معينة في كتابة الشعر وإلقائه، وكانوا يلبسون ملابس معينة، ويتزيون بزي باعث على «الغرابة» كما سيفعل «الهيبيون» الغربيون بعدهم بقرون. من هنا كان الشاعر هو المعنى والمبنى، وهو الشكل والمضمون، ولذا قالوا قديماً إن المعنى في بطنه. ومرت فترة على عصور «الجاهليين» ليأتي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ليقول، إن المعنى ليس في بطن الشاعر، ولكن «المعنى في بطن الطريق». وهنا تقدم الفكر النقدي العربي خطوة بإخراج المعنى من «بطن الشاعر» الذي يعني الابتعاد به عن «بطون الجن» السارحة في مسارب وأودية بلاد العرب وقفارهم، إلى تجسيد هذا المعنى على «قارعة الطريق» الذي يمر به «السائرون» من دون أن ينتبهوا، حتى يأتي الشاعر فيضع المعنى في حلل من الحروف والأجراس.
وبعد فترة يجيء أبو الطيب المتنبي، ويُسأل عن «شيء من دقائق المعاني في شعره»، فيقول: سلوا صاحبنا أبا الفتح، فإنه يقول ما أردت وما لم أرد»، في إشارة طريفة إلى أن المعنى أصبح في بطن «القارئ» لا «الشاعر»، حيث يتقدم المتنبي خطوة جبارة لنقل المعنى من «بطن الشاعر/المتنبي» إلى «بطن القارئ/ابن جني»، وهذه إشارة مهمة جاءت بعدها نظريات «التلقي» الحديثة، لتجعل القارئ عنصراً مهماً في فهم النص، وإعادة إنتاجه. ولكن قبل أن ينتقل المعنى إلى بطن «القارئ»، كان كامناً في بطن «النص»، حسب تحولات الفكر النقدي في القرن الماضي، وعلى هذا الأساس جاءت النظرية البنيوية لتلغي كل ما عدا النص كـ»حوامل معنوية» لتجعل النص وحده رحم المعنى، ومناط ولادته. وقد تحدث رولان بارت في «لذة النص» عن تكتيكات اختباء المعنى في «تجاعيد النصوص»، و»اللذة» التي نتحصل عليها عند «ملامسة القصيدة»، غير أن البنيوية ولكثرة ما ركزت على «جسد النص»، جعلت «التفكيكيين»، وأصحاب نظريات «القراء والتلقي» ينفلتون من «فتنة النص» إلى محاولات تحسس المعاني في «بطن» آخر، هو بطن القارئ، هذه المرَّة.
وباختصار تواصلت رحلة المعنى من «بطن الشاعر» قديماً، إلى «بطن النص»، في ستينيات القرن الماضي، إلى «بطن القارئ» مع نهاية الألفية الثانية. والواقع أن كل مرحلة من مراحل تتبع المعنى قد وصلت مع نهاياتها إلى حالة من التطرف، ولَّدتْ نقيضها الخارج من رحمها، ففي القرن الأوروبي التاسع عشر وما قبله، جُعل «المعنى في بطن الشاعر» لا غير، حيث لم يكن أحد يفكر في الخروج للبحث عن معنى «النص» خارج السياقات الوجدانية والنفسية والبيئية والتاريخية والاجتماعية لـ»الناص»، إلى أن جاءت الثورة البنيوية التي رفعت شعار: أو «موت المؤلف» كما تجسد عند رولان بارت، وهي الحركة التي انغلقت بدورها في «هلام» من الأشكال والإحصاءات والأرقام، عندما كانت تحاول أن تبحث عن المعنى داخل النص لا غير، إلى أن ثارت عليها اتجاهات ما بعد البنيوية، التي حدثتنا أن المعنى يوجد هناك في ركن بعيد من فكر ووجدان وتأويلات «القارئ». وقد ظلت تلك المراحل تتوالى في ما يشبه «ردات الفعل الفكرية» على تزمت بعضها، حيث سلكت جميعها المسار ذاته الذي بدأ متمرداً على «القوالب النظرية» لما سبقه لينتهي إلى «قوالب نظرية» تؤسس في مراحلها الأخيرة للثورة عليها في إطار نظري جديد، في متوالية من الأفعال ورداتها.
ونحن إذ نقف اليوم إزاء هرم ضخم من تراثنا العربي الإسلامي: الديني والإبداعي، فإننا نتساءل عن «كيفيات مقاربته/ملامسته»، والمنهجية التي يمكن بها إعادة إنتاج ما يمكن إعادة إنتاجه اليوم من هذا التراث. ولو حددنا أكثر فإن تراثنا الديني وفي مقدمته القرآن والسنة بحاجة اليوم إلى إعمال مناهج يمكن أن تدخل في حسبانها ما أُطلق عليه «دمج الآفاق»، حسب الفيلسوف الظاهراتي هانز جورج غدامير في كتابه «الحقيقة والمنهج»، مع بعض التوسع اللازم لتجاوز طروحات غدامير، بحيث يمكن البحث عن المعنى عند المرسِل وفي الرسالة ولدى المرسَل إليه.
وبهذه المنهجية المنفتحة على أبعاد سياقية دالة تحيل على المرسِل، وميكانيزمات لغوية ثرية تغوص في الرسالة، وآفاق تأويلية موحية تخص المرسَل إليه، بهذه المنهجية يمكن للعرب والمسلمين اليوم الخروج من الأزمة التي فرضتها عليهم ثنائياتهم الضدية المتمثلة في تناقضات: التاريخ والحاضر، والتليد والطارف، والأصول والفروع، والأصالة والمعاصرة، والكاتب والقارئ، والاتجاهات السلفية واتجاهات الإسلام السياسي، وغير تلك من «الثنائيات الضدية» التي يمكن أن تتسق في نسق جمالي يجعلها مصدر ثراء فكري وروحي ووجداني، بدلاً من كونها مصدر خراب سياسي واقتصادي واجتماعي، كما هو الشأن اليوم.
إن دراسة النص القديم اليوم تتطلب انفتاحاً أكثر على نظريات التلقي والقراءة، وإتاحة الفرصة للأبعاد التأويلية التي يمكن لها أن تخرج المسلم من «قشرة النص» إلى مديات محلقة يضفي عليها القارئ من إيحاءاته وتجاربه النفسية والروحية، بالقدر الذي لا يخالف توجهات النص، بما هو بناء لغوي، ولا صفات «النَّاص» المتجلية ضمن سياقاتها لإضاءة زوايا النص، ومنع تحول القراءة إلى «تهويمات تأويلية»، قد تغاير مرادات «الناص» ومضامين «النص»، بحيث نحصل على قراءة معاصرة للنص الديني تخص قارئ النص الذي يقرأه في القرن الواحد والعشرين، والذي من حقه أن ينتج «قراءته الخاصة» التي تنفتح على سياقات هذه القارئ الاجتماعية والتاريخية والحضارية، والتي تستوعب تجاربه الروحية في زمن مختلف ومكان آخر، وتجارب روحية ووجدانية مغايرة. هذا العمل بالطبع هو عمل مؤسسي، يمكن أن تنهض به مؤسسات لا أفرادا، شريطة ألا تقضي «المأسسة» على «فردانية» العمل، وأن تتاح الفرصة للأصوات المختلفة لتدخل ضمن سياق العمل، الذي سيكون له، إن تم، أثر كبير في مؤاخاة الماضي والحاضر والمنقول والمعقول، في نسق جديد يتكئ على الأمس وينفتح على اليوم، وينطلق ليضيء مساحات واسعة من الغد المقبل.
إن ما أصيبت به منطقتنا من تشوهات على مستويات مختلفة، يرجع في جانب منه إلى غياب هذه القراءة المعاصرة، القراءة التي تعطي للقارئ مساحة واسعة ليعيد تشكيل معنى نصه أو معنى حياته، حيث يحدث أن يكون «معنى النص» هو «معنى الحياة»، في اللحظات المصيرية التي نعيشها، والتي يتم الانطلاق فيها من النصوص لبعث الحياة أو لوأدها، بناء على ما يتلقاه القارئ من النص، وما يحمل له من معان وإيحاءات وإشارات.
هذه القراءة القائمة على «دمج آفاق المرسِل والرسالة والمرسَل إليه»، هي التي يمكن أن تضيء التجاويف الغائرة» التي ينسرب منها المعنى الكلي لنصوصنا وحياتنا. هذه هي القراءة التي يمكن أن تجعلنا «نعيش نصوصنا المقدسة»، و»نقدس حياتنا المعيشة» في انسجام لا انفصام، هي القراءة التي تجعلنا نخرج بفهم جديد يناسب زمناً غير الزمن ومكاناً غير المكان، القراءة التي فيها نسمع صوتنا نحن، ونتكلم بألستنا نحن، ونفهم فهمنا نحن، ونحيا حياتنا نحن، في زماننا ومكاننا نحن لا غير. هذا حقنا وواجبنا، وسيلتنا وهدفنا، وهو مخرجنا من الظلمات إلى النور.
نقلا عن صفحة الكاتب بالفيسبوك