مات عبدالله إدريس
الرجل الذي قال قولته المشهورة: وما بقي من التعليم إلا مهيوب بن غانم.
صارت عبارته مثلا يضرب في كل حالة توافق مناسبة لهذا الموقف.
كان عبدالله (رحمه الله) شابا مرحا وبشوشا ومميزا بين أقرانه، أجاد تعلم الفن على أنغام الموسيقى القديمة في شبابه، وكان الجميع يرقص حينها مرحا، في زمن يعد الزمن الأجمل والأنصع حينها.
أجاد الرقص على تلك الأنغام، ورقص معه الكثير من زملاءه، ماعدا مهيوب بن غانم (أطال الله في عمره)، فأطلق عبدالله عبارته تلك معترضا على عدم إجادة مهيوب بالرقص، " وما بقي من التعليم إلا مهيوب بن غانم".
عبدالله إدريس هو عم جدتي من جهة والدي، وهو شقيق لخمسة أخوة، رحل والد جدتي قبلهم جميعا، وكان مقاتلا مع قبيلته، ومع الدولة في فترة لا احد يتذكر متى كانت بالضبط، ولا ماذا كانت طبيعة تلك الحروب.
تحكي عنه جدتي (وهي ابنته الوحيدة) بأنه كان يعود من مكان معين في حال خرج منتصرا، وإذا عاد مهزوما فيعود من مكان آخر، ولذلك سرعان ما كانت الناس وقتها تعرف نهاية المعركة من المكان الذي كان يعود منه.
كان أولهم من ناحية الرحيل، ثم لحقه اشقائه واحدا تلو الآخر، وتبقى منهم واحدا، لازال شاهدا على احداث كثيرة، وله خصوصية تختلف عن بقية اخوانه رحمهم الله جميعا.
كان عبدالله صاحب صوت جميل، وبعد فترة طويلة من حياته، أصبح مؤذن الجامع في القرية، وكان صدى صوته يملئ ارجاء القرية عند كل صلاة، ولا انكر اني حفظت الآذان من كثرة سماعي له وهو يردده في صلواته الخمس.
ومثلها حفظت الآيات التي كان يقرأها قبل كل آذان: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، ويتبعها بأية أخرى "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا"، ثم يبدأ بالأذان.
وفي فترة من الفترات تولى عبدالله ادريس عملية إدارة توزيع الماء على سكان قريته، والتي كان نصيبها من الماء من بعد الفجر حتى الظهر.
كانت مهمته هي توزيع الماء من خلال تنظيم حركة تدفق الماء بين المنازل عبر انابيب المياه بواسطة (القواطع)، فيقطع الماء عن بعض المنازل حتى تأخذ البقية نصيبها، ثم يفتحه للبقية وهكذا يوميا.
كان مركز التحكم أمام منزل جدتي لأمي رحمها الله، وكانت تلك القواطع مكشوفة، وعددها يزيد على الأربعة تقريبا.
أتذكر حينها وانا صغير كم عبثت بها، وكم اغضبت عبدالله ادريس.
كلما سنحت الفرصة لزيارة جدتي في الصباح اخرج لتلك القواطع وأعيد حركتها بالاتجاهات المعاكسة، وأفر هاربا.
تصيح النساء في القرية، فيخرج عبدالله غاضبا شاتما من فعل هذا، بينما اختبئ انا في مكان معين اشاهد حركته وانفعاله، ووجهه المحتقن وهو يرتدي مشدته البيضاء.
كان الامر يتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد، أما لو كنت انا وشقيقي ياسر، فكان ذلك مصدرا من مصادر المرح بالنسبة لنا.
نحركها في الاتجاه الآخر ونفر كالعادة، أو يبقى أحدنا ليحلف الايمان انه لم يرى احد، ومع ذلك كنا نستغرب كيف يستطيع معرفة توزيع تلك القواطع وتصويب خطأها بسهولة بعد العبث.
أشعر الان اني مدين له باعتذار على تلك المتاعب التي تسببت بها له.
اما وقع أقدامه عند صلاة الفجر وهو يخطو نحو الجامع للأذان فلازالت في الذاكرة، فكلما اقتضى الامر بالمبيت ببيت جدتي اسمعه ذاهبا وعائدا من الجامع، الذي كان يشعر انه وظيفته الأساسية في الحياة.
لا أدرى كيف عادت ذاكرتي الى الخلف، بعدما سمعت بنبأ وفاته، ربما للأمر علاقة بحركة الحياة، وفجائعها المستمرة.
فعبدالله ينتمي لجيل كبير غادر أغلبه حياتنا، وجاء من بعده جيل جديد، تتقدم به الحياة أيضا بسرعة، ويجد نفسه في مكان من سبقوه، مثلما تتقدم بنا الحياة لنلحق بهم، ونصل الى ما وصلوا إليه من الشيخوخة ومراحل الحياة المختلفة.
كان ذلك جزء من ذكرى رائعة ومؤلمة أيضا عن قرية شهدت ميلادنا الأول، وعشنا فيها أياما كريمة، ولا اعتقد أن يأتي بها الدهر مرة أخرى.