إذا أطلقت رصاص مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك، هكذا قال الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في إشارة إلى أهمية الرجوع إلى الماضي والتنقيب عنه وقراءته بغرض الفائدة والاعتبار ومن ثم الانطلاق صوب آفاق المستقبل الرحيب.
في هذه القراءة التاريخية نحاول تقديم ما أمكن للقارئ اليمني من حقائق ودلائل عن واحدية الأرض اليمانية وإنسانها منذ زمن عادٍ الغابر مرورا بالزمن الذي وضع فيه قحطان بن هود قدمه على ثراها ومضى يمشى على جبالها ووديانها وصحاريها وينجب فيها الرعيل القحطاني الأول من نسلٍ زلال الأصل وطيّب المنبت وفخر الانتماء.
ومن المؤسف هنا القول أن الجيل اليماني الراهن لم يعُدْ يطّلع على تاريخه الضارب في القِدم والباذخ في العزّ والقِيَم، سواء كان ذلك إهمالاً منه دون قصدٍ أو تجاهلاً بقصدٍ ودرايةٍ بهدف البحث عن مصالح شخصية آنيةٍ أو مشاريع فئوية ضيقة، خصوصا أولئك الطارئين على الحكم والسياسية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تعرض له التاريخ اليمني من طمس ممنهج جرّاء الاحتلال الفارسي والهاشمي لليمن على حد سواء والذي أدى إلى تشويه كبير في الهوية الجمعية للأمة اليمنية.
ومع ذلك أصبح لزاماً على هذا الجيل التائه المغيّب تاريخاً والمشوّه هويةً والفاقد لدولته المركزية القوية، أن يعود لقراءة تاريخه ويستخلص منه العظات والعبر والدروس حتى يخرج من لُجج حاضره البائس ويستبين بها مستقبله المنظور ويرتسمه بقلم إرث الماضي العتيق العابق وحضارته التي نُقِشت على صفحات المجد والخلود.
ومن خلال هذه التناولة التاريخية التي ستكون على ثلاث حلقات ستبدأ بقراءة تاريخ قحطان وحضارة سبأ الأقدم ثم الحديث عن عصور ملوك سبأ التبابعة وانتهاءً بالحديث عن مناطق اليمن ومسمياتها من حضرموت إلى شرْعب ودلالاتها التاريخية، وكل هذه الحلقات توضح إيضاحا لا لبس فيه أن اليمن كانت موحدة لآلآف السنين منذ بدء الخليقة رغم مرورها بفترات ضَعْفٍ وتقهقرٍ لكنها سرعان ما كانت تعود إلى قوتها ولعل ما نمر به اليوم هو شيء من ذلك الضعف الزائل لا محالة.
فمنذ بزوغ فجر الحضارة كانت اليمن المركز الحيوي العامر في المنطقة العربية كلها وسكانها هم الأمة الأولى من قدماء العرب العاربة الساميين، ومنذ الألف التاسع قبل الميلاد بدأ تاريخ اليمن الحضاري التليد.
يقول البروفسور الألماني أدمون بوخنر عام 1986 " أن اليمن شهدت أقدم الحضارات على مر التاريخ، وكنا نظن أن أقدم الحضارات كانت في مصر وبلاد الرافدين لكن اتضح لنا الآن أن اليمن هي أقدم مركز حضاري في العالم".
بدأت الحضارات في اليمن منذ عادٍ الأولى التي اتخذت من المناطق الشرقية من اليمن اليوم موطنا لها، يقول ابن خلدون في سفر حديثه عن حضارة اليمن"سكان اليمن منذ شروق الحضارة هم قبائل عاد واخوانهم من العرب العاربة الساميين الأوائل فهم أقدم الأمم من بعد قوم نوح، وأعظمهم قدرة، وأول أجيال العرب من الخليقة، وكانت مواطنهم أحقاف الرمل التي تعرف اليوم بحضرموت والشِّحْر".
قوم عادٍ الذين عاشوا في شرق اليمن بعث الله إليهم قبل هلاكهم نبيه هود عليه السلام فلما كفروا به أهلكهم الله ونجى منهم من آمن برسالة نبيّه، ومن ذرية نبي الله هود عليه السلام ولده قحطان بن هود، وهو الجد الأكبر لليمنيين جميعا، وقد ورد اسم قحطان في سفر التكوين التوراتي بإسم "يقطن"، ولهذا يقول ابن خلدون أن "قحطان هو تعريب ليقطن بن هود"، وقد جاء في سفر التكوين أن قحطان رزق بثلاثة عشر ولداً منهم ثمود وسبأ الأكبر وحضرموت الأكبر وأزال باني صنعاء ويعفر، ومن نسل قحطان بعد قرون طويلة من الزمن جاء حفيده يعرب المكنى ب يمن وهو أول من شيد دولة سميت بإسمه "اليمن" في اوائل الألف الخامس قبل الميلاد.
في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد قامت مملكة سبأ الأقدم في عصرها الأول وتم خلالها توحيد اليمن تحت مسمى "مملكة سبأ" بقيادة الملك سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان واستمرت أكثر من عشرة قرون من الزمن حتى العام 2120 قبل الميلاد.
وفي بداية القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد بدأ العصر الثاني من مملكة سبأ الأقدم وتسنّم العرش السبئي الملك سبأ عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حمير باني سد مأرب العظيم الأقدم وموحد اليمن والجزيرة العربية، وفي معرض حديثه عنه يقول المؤرخ نشوان بن سعيد الحميري " استكملت جزيرة العرب طاعة له وإجابة، وعاش في أهل عصره ميمون الطائر، نظِر الأيام، لا تزداد به الرئاسة إلا جدّة، ولا تطويه الليالي إلا عن إدخار لعدّة، واستعداد لنجدة" ويضيف نشوان قائلا:
ورثنا العزّ من جدِّ فجدِّ ... وراثةَ حمْيرِ من عبد شمسِ
ودام حكم العصر السبئي الثاني زهاء ثلاثة قرون من الزمن حتى العام 1792 قبل الميلاد وكان آخر ملوك هذا العصر هو الملك الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير الأصغر بن سبأ الأصغر.
العصر السبئي الثالث بدأ في نهاية القرن الثامن عشر قبل الميلاد بقيادة الملك شمس عاد بن الملطاط الحميري الذي توسع حكمه إلى أصار كثيرة خارج اليمن وقد ورد اسمه في كثير من النقوش المسمارية البابلية في عهد الملك البابلي حمورابي، واظهرت النقوش البابلية رسالة في أمر ما من شمس عاد ملك أرض سبأ "شمس آدد- ملك سبأ أرتو" إلى الملك حمورابي، وحكم بعده نجله شداد بن شمس عاد بن الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير الأصغر الذي بنى مدينة إرم ذات العماد التاريخية وسمّاها باسم ابنه إرم بن شداد، وأسس كذلك مدينة عدن وشقّ فيها طريقاً كانت بمثابة بابٍ إلى عدن وقد سماها باسم ابنه عدن بن شداد بن شمس عاد، ويقول المؤرخون أن عدن مشتقة من "عاد"، وانتهى العصر السبئي الثالث في العام 1472 قبل الميلاد وكان آخر ملوكه من نسل شداد بن شمس عاد، مرثد(مرشد) بن شداد ويعمر بن شداد ومعدي كرب بن شمّد بن شداد.
يتبع ..........
المراجع:
الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ وحمير، محمد حسين الفرح
نقوش مسندية وتعليقات، مطهر الإرياني
في صفة بلاد اليمن عبر العصور، حسين العمري، مطهر الإرياني، يوسف محمد عبدالله
تاريخ اليمن القديم ، محمد بافقيه
خلاصة السير الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة، نشوان الحميري
الإكليل، الحسن بن أحمد الهمداني
تاريخ ابن خلدون ج 2، ابن خلدون