الحشود الجماهيرية السبعينية الضخمة منذ ثورة الشاب 2011م وحتى يوم أمس تعمل خارج كل تلك الأطر والمبادئ مع احترامنا لكل من خرج معبراً عن رأيه مُكَبَلاً بمطالب قوت يومه وسابحاً في بحر جهله وظلامه ومُستَغَلاً من قوى الشر والكبر والانهزام المعتمدة على مبدأ غطرسة القوة لا إلى قوة الحق.
بيد أن الصفة الحقيقة للإنسان الذي يسكنه إنسان توجب عليه أن يَكبحْ جماح رغباته، ويضبط سلوكه ويغلب الحق عن طريق سن القوانين الضامنة للحق له ولغيره، والاعتراف بها قواعد ومبادئ ترشده إلى الطريق القويم فمنذ أن عاش الإنسان اليمني في مجتمعات تضم غيره من الاجناس وهو ينشد العدل الذي يحفظ علاقاته ومعاملاته مع غيره.
لذلك لابد من ملازمة فكرة الاعتراف بمبدأ العدل والإنصاف وفكرة تطبيق القانون على أرض الواقع، والاعتراف بمبدأ العدل والقانون الذي يتربع دائماً قمة المطالب الإنسانية وليس غريباً كذلك أن تصبح فكرة العدالة الهم الدائم والشغل الشاغل للعلماء والباحثين والفلاسفة منذ الوهلة الأولى لتأسيس علومهم.
لأن القانون يسعى في العادة إلى تحقيق العدالة بين الناس على قدم المساواة وتحقيق دولة المؤسسات القانونية والتشريعية العادلة بحيث ينتهي التميز على أساس عرقي أو ديني أو طائفي لأشخاص على آخرين تتحقق فيهم شروط المواطنة واحترام الأنظمة السائدة وتحترم التاريخ والعقل والجغرافيا والحقوق الطبيعية الدائمة أو طائفة على أخري.
لم تدهشني أنا شخصياً تلك الحشود بالنظر إلى مجمل الظروف التي رافقت الحشد لأنها خرجت في مناسبات انتخابية متكررة، سِيقَ الناس إليها موعودين بغدٍ أفضل وبحياة أرغد وتعود في كل كرة أدراجها تلوك عبارات الحزن والأسى جراء طواحين الجرع الاقتصادية التي وعدوا بإيقافها وتسلط هوامير الفساد الممنهج على كل المستويات وفي كل الدوائر والمؤسسات، ولا أعتبر ذلك الحشد تعبيراً صريحاً ينم عن صمود الشعب اليمني في مواجهة ظروف الحرب والبحث عن حلولٍ جذريةٍ لها، بل هي موجة شحن معنوي لأنفس خاوية وتهيئتها للاستمرار في إدارة تروس الحرب الطاحنة في اليمن ولأنها لا تمثل إرادات ومطالب الشعب اليمني الاستراتيجية على المدى البعيد والقريب من الصحراء إلى المضيق ومن البحر إلى البحر ولا تدعو إلى بناء الدولة الاتحادية اليمنية المنشودة.
لأنها انكفأت على نفسها وانغلقت على ذاتها واختزلت المجتمع اليمني في هويتها ومطالبها الخاصة المستندة على امتيازات جغرافية وإرث تاريخي وأفكار مذهبية صارت في حكم العدم، في ضل المتغيرات على كل المستويات الداخلية الدولية والاقليمية. لأنها لا ترى إلا نفسها، ولا تنظر إلى الآخرين الا ككائنات بشرية ملحقة بها، وأنها ليست سوى مجاميع عديمة الحق والاعتبار.
وفي الوقت الذي خرج جل الشعب اليمني يقاتل يتسلق الجبال الشاهقة ويقطع الوديان مترامية الأطراف وعرة الطرق والمسالك متجهاً صنعاء بحثاً عن الحرية واستعادة دولة الحق والقانون، خرجت حشود السبعين التي أخجلت اليمنين أمام غرابة وسخرية المراقبين الدوليين من شعب يفترش الرملاء ويلتحف السماء يتجرع مرارات الحرب، يسعى إلى فرض قيود الذل والعبودية على نفسه بيده ويقاتل في سبيلها ويهتف للجلاد بالتضحية والفداء ويصرخ في الهواء وأمعاؤه منعقدة من الفاقة وسيقانه مرتعشة من الجوع.
*الدكتور محمد شداد اكاديمي يمني في ماليزيا.
*المقال خاص بالموقع بوست.